نقد

تفكك العولمة وميلاد الدولة الاجتماعية

 

  • تقديم

إن الحرب المعلنة من طرف كورونا تؤدي حاليا إلى تفاقم أزمة المجتمع الإنساني الذي يعيش أصلا تحت سيطرة النيوليبرالية التي خلقت وضعا دوليا كارثيا مبنيا على الاستغلال الاقتصادي والأنانية والحروب عمق بشكل مأساوي جراح الأفراد والشعوب وتشريد ملايين اللاجئين في ظل نظام العولمة الذي كرس اتساع الهوة بين دول متقدمة وأخرى تابعة تتعرض للهيمنة والسيطرة والاستغلال ونهب الثروات الشيء الذي عرقل تـنميتها الاقتصادية والاجتماعية وإمكانية تحقيق الديمقراطية من طرف شعوبها.

إن حرب كورونا اليوم جعلت العالم بأسره يراجع حساباته ويقف على حجم الكارثة المحدقة بالإنسانية جمعاء ويحاسب النظام النيوليبرالي الظالم نظرا لنتائجه الكارثية على الدول والمجتمعات والمواطن حين همش الحماية الصحية والتعليم والشغل والسكن وأعاق التنمية الاقتصادية للدول النامية لمواجهة تحديات العصر وعلى رأسها وباء كورونا الشيء الذي يحتم تحليل وتفكيك الوضع الحالي للمجتمع الإنساني وإعادة بنائه على أسس وقيم جديدة تجعل من الإنسان كجوهر وكقيمة أساسية في صلب المعادلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وطنيا وعالميا.

1- كورونا وتفكك المجتمع المعاصر

إذا كانت العولمة قد اخترقت حدود الدول وعممت نظامها الاقتصادي النيوليبرالي معتمدة على الضغط السياسي والحصار واستعمال الجيوش العسكرية فإنها فشلت بالمقابل في تحقيق التضامن والتعاون بين الشعوب ومساعدة الدول النامية على تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية. في هذا السياق يقول إدغار موران عالم اجتماع وفيلسوف فرنسي ومفكر مناهض للعولمة : ” تكشِف لنا هذه الأزمةُ أن العولمة هي ترابطٌ وتشابك فاقد التضامن. فمما لا شك فيه أن مسار العولمة قد نتج عنه توحيد تقني و اقتصادي شمل كوكب الأرض. بيد أن العولمة لم تحرز تقدما في مجال التفاهم بين الشعوب. “1 فمنذ الثمانينات من القرن الماضي ازدادت النيوليبرالية العالمية بطشا وفتكا بالإنسانية في عدة حروب خربت دولا ومجتمعات لازالت جراحها لم تعالج إلى حد الآن، بل تعمقت أزمة الدول مع الإرهاب والتطرف فتدحرجت الإنسانية إلى مستنقع مظلم.

كل ذلك بسبب غياب الإرادة الفعلية لحل الأزمات ونهج سياسة فرق تسد أمام غياب المنظمات الدولية وعجز هيأة الأمم المتحدة و غياب التضامن الدولي. كما تعرضت البيئة إلى نكسة حقيقية بسبب التلوث وعدم التزام بعض الدول بالاتفاقيات الدولية لحمايتها وتجنب ارتفاع درجة حرارة الأرض والكوارث الطبيعية.

لكن تفشي فيروس كورونا واندلاعه وإعلانه الحرب على البشرية بدون استثناء جعل الجميع يدرك أن الإنسانية أمام مصير مشترك يفترض التضامن والتعاون مواطنين ودولا وشعوب من أجل هزم الفيروس ومعه الأنانية والفردانية والتسلط وفتح محاسبة النظام النيوليبرالي الذي حارب الحماية الصحية والتعليم والشغل بهدف استغلال الإنسان والربح بمختلف الوسائل بدون إعطاء أهمية للإنسان وتنميته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وقيمه. وأدى أيضا إلى تفكيك منظومة القيم وتهميش الكفاءات، وتشجيع الثقافة الاستهلاكية واللامبالاة بقيادة اليمين السياسي الشعبوي النيوليبرالي في الدول المتقدمة والنامية على السواء بدون تقديم بدائل وحلول لمعالجة المشاكل والأزمات الاجتماعية للمجتمع باعتماد اقتصاد السوق وإخضاعه لقانون العرض والطلب وتحرير الأسعار وتراجع دور الدولة مما أدى إلى انهيار الأوضاع الاجتماعية للمواطن في جميع الدول.

كما عرف النظام النيوليبرالي تأزما في خطابه السياسي وتدحرج نحو اليمين المتطرف العاجز عن تقديم الحلول الموضوعية للأزمة المركبة للمجتمع فتحول اهتمام الساسة من الصالح العام والقيم الإنسانية النبيلة إلى استغلال النزعات القومية والدينية ومعاداة المهاجرين وبذلك تم تهميش السياسة بمفهومها الايجابي التي تعد المدخل الأساسي لأي تغيير في عالم اليوم وعجزها عن خدمة المواطن والمصلحة العامة نظرا لتحويلها إلى مجال لممارسة الديماغوجيا لتبرير الأزمة وتدبيرها عوض حلها ببرامج اجتماعية تنصف الطبقات الاجتماعية الفقيرة والهشة وتسائل نظامها الاقتصادي الرأسمالي المتهالك.

2- الدولة الاجتماعية بعد كورونا

لقد أصبح واضحا أن العالم اليوم في معركته ضد كورونا يزداد تأزما في جميع المجالات يفترض تضامن جهود المواطنين والدول والشعوب للدفاع عن حق الإنسان في الحياة على هذه الأرض من أجل التعاون والصمود في وجه كل من يعمل على مصادرة هذا الحق في إطار العيش المشترك الذي يجمع الأفراد والمجتمعات. ومن ضمنها العولمة ونظامها النيوليبرالي الذي يفتك ويفكك الدول والمجتمعات على أساس عرقي وديني وتشجيع الطائفية وخلق التوترات الإقليمية وإشعال فتيل الحروب لخلق دول فاشلة متحكم فيها مع مصادرة الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية واللغوية للمجتمعات واعتماد آليات الضغط السياسية ولوبي الشركات الكبرى و العابرة للقارات للتأثير في سياسات الدول التبعية.

في هذا الإطار يقول المفكر والاقتصادي سمير أمين :” إن العولمة التي تقدم دائما كضرورة يفرضها التقدم الاقتصادي والتحولات الإيجابية في المجتمع، ليست في الواقع إلا استراتيجية هيمنة تهدف الولايات المتحدة من خلالها إلى ضمان التحكم بالإدارة الاقتصادية للعالم، من خلال مؤسسات عالمية شكلا ولكنها مدارة في الواقع من طرق الشركات العابرة القوميات والحكومة الأمريكية، من جهة، ومن الإدارة السياسية والعسكرية للعالم من خلال حلف شمالي الأطلسي.”2

إن العالم أصبح اليوم في وضعية حرب حقيقية مع كورونا يحتم التضامن الدولي من أجل القضاء على هذا الوباء. وهنا لا بد من الإشارة إلى دور الصين وروسيا وكوبا ومبادرتهم لمساعدة ايطاليا والعالم لتجاوز هذه المحنة والقضاء على الوباء. وخصوصا أمام توسع انتشار الفيروس القاتل بإيطاليا وإسبانيا وفرنسا بالرغم من الحماية الصحية المتقدمة في المجتمعات الأوربية. أما الدول النامية فهي مطالبة بأقصى درجة اليقظة والالتزام بحالة الطوارئ الصحية لمحاصرة كورونا وحماية المواطنين من الهلاك وخصوصا أمام ضعف وهشاشة البنيات الصحية. فهذه الدول مطالبة مستقبلا أن تجعل المرافق الاجتماعية ضمن أولوياتها التنموية وبناء الإنسان في أي مشروع تنموي مقبل بعيدا عن عقلية التهميش والإقصاء.

في هذا الإطار أصبح العالم أمام سياق دولي جديد يرجح البديل الإنساني للصين وقيم التضامن للتعاون والمساعدة في إنقاذ الشعوب أمام تردد الولايات المتحدة الأمريكية وعدم جاهزيتها للتعامل بكل الجدية المطلوبة لمساعدة حلفائها على تخطي أزمة كورونا. لذلك تعتبر الدولة الاجتماعية هي البديل الإنساني و الموضوعي للأزمة البنيوية والمركبة للرأسمالية للإجابة عن القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في إطار مشروع مجتمعي يعطي الأولوية للحماية الاجتماعية في مجال الصحة والتعليم والشغل والتضامن وطنيا ودوليا. يبقى هذا التصور بعمقه الإنساني الحل المناسب والحتمي في واقع عالمي يزيد فيه النظام النيوليبرالي إفلاسا وعاجزا عن بناء الإنسان وجودة عيشه.

أيضا أصبح الوضع في زمن كورنا وما بعدها يفترض إعادة الاعتبار للقطاع العام ومرافقه العمومية و بناء الدولة الوطنية الديمقراطية على أساس المصلحة الوطنية واقتصادها الوطني والعلاقات المتكافئة والمتوازنة مع باقي دول العالم وهذا لن يتأتى إلا عن طريق التكتل والاندماج الإقليمي والجهوي للتكامل الاقتصادي. فالتكتلات الاقتصادية قادرة على فرض كلمتها وإرادتها السياسية والاقتصادية في نظام العولمة المفكك إن استطاعت أن تطور مشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية يكون مدخله البناء الديمقراطي الوطني للتخلص من نظام التبعية الاقتصادية للنظام النيوليبرالي العالمي المتهالك ومؤسساته المالية والذي يتسبب في تعميق واقع الأزمة الشاملة في المجتمعات وخلق التوترات الاجتماعية عبر تعميق الفوارق الطبقية والمجالية التي تعيق فرص التنمية والتقدم والتطور لبناء القيم الإنسانية الحقيقية. في هذا السياق يؤكد الاقتصادي سمير أمين بالقول : “يجب أن تواجه رؤية العالم الأحادي القطب برؤية عولمة متعددة الأقطاب. وهي الإستراتيجية الوحيدة التي تمنح هامشا من الاستقلالية يتيح تنمية اجتماعية مقبولة لمختلف مناطق العالم ، وبالتالي دمقرطة للمجتمعات، وتقليصا لعوامل النزاع.”3

إن كورونا أعادت لمفهوم الدولة دورها الاجتماعي لتصبح مطالبة اليوم وفي سائر المجتمعات بالنهوض بالتنمية الاجتماعية لحماية الطبقات الفقيرة والهشة في المجتمع وذلك بالاهتمام بالمؤسسات العمومية والتخلي عن اقتصاد السوق والتدخل لحماية القدرة الشرائية للمواطن من المضاربين والتصدي للاحتكار ومحاربة الريع واستفادة الجميع من ثروات البلاد لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية حتى تكون في خدمة الجميع للحد من الفوارق الطبقية و المجالية لتوفير إمكانيات العيش الكريم لجميع المواطنين. وهذا يتطلب الشفافية والمحاسبة وربطها بالمسؤولية ومحاربة الفساد لحماية المال العام من النهب والتبذير. أيضا تتطلب الدولة الاجتماعية تحديد الأولويات والتي تتمثل في النهوض بوضعية المستشفيات وتجهيزها وإنصاف مواردها البشرية لتوفير الصحة العامة للجميع وبجودة عالية قادرة على توفير العلاج للمواطنين في أحسن الظروف أثناء وبعد كورونا. يقول إدغار موران في هذا الشأن ” ينبئنا بحزم فيروس كورونا المستجد بأنه يتعين على البشرية جمعاء أن تعيد البحث في طريق جديد من المحتمل فيه أن يتخلّى عن العقيدة النيوليبرالية لغاية التوصل إلى اتفاق سياسي اجتماعي بيئي جديد.”4

لكن المجتمع الإنساني البديل مطالب فورا وبدون انتظار بتطوير بنيات حقيقية للحماية الاجتماعية و بناء تعليم بجودة عالية وتوفير مناصب الشغل والتعويض عن فقدانه بمؤسسات دولة حقيقية تشتغل بمنطق المواطنة وخدمة المصلحة العامة وفق تصور ديمقراطي يعطي للممارسة السياسية مصداقيتها للنهوض بالوضع الاقتصادي والاجتماعي بعيدا عن الهيمنة والسيطرة والاستغلال. إنه المجتمع الذي يستثمر في الإنسان ويهدف إلى بنائه كمواطن قوي بحقوقه وواجباته ومتضامن مع أخيه الإنسان ومحيطه والمصير المشترك للإنسانية جمعاء .

  • خلاصة

لقد أصبح المجتمع الإنساني مطالبا بمراجعة وضعه ووجوده الإنساني ومحاسبة النظام النيوليبرالي باعتباره أدى إلى إفلاس المجتمع المعاصر بمختلف بنياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية نظرا لطبيعة بنيته المأزومة التي تنتج البؤس والفقر والتخلف في عالم أصبح في حرب مفتوحة مع كورونا كوباء مدمر. وهذا يفترض بناء مجتمع بديل بقيادة الدولة الاجتماعية بمنظومة قيم عالية تؤسس لبناء مجتمع إنساني عادل ومتضامن يضع ضمن أولوياته تنمية الإنسان وتقدمه لتخليصه من الاستغلال والفقر والهشاشة مسلحا بالعلم والمعرفة لمواجهة كورونا وجميع الكوارث هنا والآن وغدا ومتشبعا بالقيم الإنسانية في مجتمع مغاير تتحقق فيه قيم المواطنة بكامل الحقوق.


المراجع :

المجلّة الفرنسية، L’Obs.. عدد 18 مارس. 2020.
– Edgar Morin : « Le confinement peut nous aider à commencer une détoxification de notre mode de vie » https://www.nouvelobs.com/art
2- سمير أمين. (2003). ما بعد الرأسمالية المتهالكة. ترجمة د. فهمية شرف الدين و د. سناء أبو شقرا. دار الفرابي. بيروت. لبنان. ص. 160
3 – نفس المرجع. ص. 201
4- نفس المجلة.

 

المصطفى رياني

المصطفى رياني: أستاذ باحث، حاصل على الدكتوراه في الترجمة القانونية من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة، طنجة، المغرب.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى