نقد

“كورونا” الفُرصة

 

ثمة فروقٌ جوهرية كثيرة في “المنطق” و”التفكير” و”الاستجابة” و”الاستشراف”؛ بين الغرب (كل دولة متقدمة أو صاعدة) وبين الدول النامية (ومنها الدول العربية)، فُـرُوقٌ أجلاها هذا المُستجد العالمي (فيروس كورونا).
أوضحُها على الإطلاق؛ حالة الاستحواذ السلبي الذي خلَّفه هذا المستجد في المجتمعات العربية، حيث لوحِظ العزوف الكبير عن الإنتاجية بنوعيْها؛ المؤسساتية والذاتية.

فرغم تفعيل غالبية الدول العربية لنظام التعليم عن بُعد في المراحل الابتدائية وصولا إلى الجامعة؛ تُسيطر حالة من التشويش؛ وأحيانا اللامبالاة لدى كثير من أولياء الأمور في إلزام أبنائهم بالانضباط مع الدروس عن بعد، وتوهيم أبنائهم أنهم في عطلة؛ بدل خلق جوّ القسم في البيت ساعة الدروس، وانخراط الأسرة في احترام هذه الفواصل الزمنية المهمة؛ بل والمصيرية لأبنائهم. والمساهمة في تجريب وتكريس وإشاعة هذا النموذج من التعليم الرقمي الذي بلا شك سيكون ركيزة أساسية في التعليم في الدول المتقدمة؛ والدول الصاعدة التي تعي تماماً أن المستقبل سيكون للتعليم وللتكنولوجية الرقمية في كل المجالات.

على المستوى الأكاديمي والجامعي؛ الوضع يبدو أكثر سوءً، فبعد تعطيل الدراسة في الجامعات، وتعطيل الفعاليات العلمية والأكاديمية وإغلاق المكتبات. لوحِظ تراخٍ وفتورٌ خطير على الطلبة فيما يخص المواكبة والبحث والإنجاز، وعلى والباحثين والأكاديميين على مستوى الإنتاج الفردي والشخصي.
عربياً؛ بإمكان أي متتبع أن يُلاحظ تراجعا كبيراً في المواد العلمية والمعرفية والفكرية المتداولة على المنصات الرقمية الأكاديمية وصفحات التواصل الاجتماعي منذ إعلان كورونا وباءً عالميا، خصوصا ما يتعلق بتصفح الكتب أو تحميلِها. في المقابل هناك إسراف في تغطية ومتابعة تطورات “فيروس كورونا” يكاد يصل إلى 24/24، مع هيمنة مرصودة للإشاعات والخرافات. وترَصُّد أو انتظار خبر توصل الغرب للقاح ضد هذا المستجد الوبائي العالمي.

وعلى النقيض؛ انتعشت المجلات والدوريات العلمية في الغرب؛ وتضاعفت أعداد البحوث والمقالات العلمية المنشورة فيها، بل إن هناك ما يُشبه المنافسة بين المعاهد والمراكز والمختبرات البحثية الطبية والصيدلية في الدول المتقدمة وحتى الصاعدة؛ لإنتاج لقاح لهذا الوباء، أو على الأقل؛ فهم أكبر لهذا الفيروس.
كما تضاعفت أرقام التحميلات للكتب والمراجع الإلكترونية في كل التخصصات؛ بسبب تفعيل التعليم عن بعد؛ وبسبب المواكبة العلمية لهذا المستجد؛ إضافة إلى وجود وقت كاف للقراءة؛ التي يعتبرُها الغرب من الحاجيات الضرورية كالأكل والشرب.
بل حتى الفلسفة؛ وعلم الاجتماع وعلم النفس انتعشت في هذه الدول بسبب كورونا؛ واستأثرت هذه العلوم بنصيبٍ وافرٍ من الدراسة والتحليل والقراءة لهذا المستجد العالمي.

لقد وفّرت لنا الأنترنت منذ أن اخترعها الغرب إمكانيات تواصلية جبارة، وأتاحت لنا فاعلية قصوى لتدبير الكثير من الأمور بأقل المجهودات وبأعلى كفاءة، إلا أن هذا المُستجد؛ سينقل هذه الفاعلية نقلة نوعية في وقت وجيز لم تكن لتبلُغه إلا بعد حين، حيث سيتم نقل الكثير من الإجراءات الخدمية في الاقتصاد والتجارة والصحة والتعليم والمال والأعمال والإدارة إلى الأنترنت، بناءً على التقييم الذي سيعقُب تداعيات هذا الوباء. هذا الإجراء لوحده كفيل بزيادة الهوة بيننا وبين الغرب لسنوات؛ وربَّما لعقودٍ من الزمن.
في عالمٍ لم يعد يَقبلُ بوجودِ مُسوغ للأمية الرقمية، وعالمٍ مازالت أمية القراءة والكتابة فيه تتخطى الـ20% إلى 30% من شعوبِه.
وعليه؛ وجب علينا حقيقة لا شعاراً؛ النظرُ إلى التعليم باعتبارِه الأمل والمنقذ والمستقبل والخلاص. ورصد كل الإمكانيات المتاحة للنهوض به، فالتعليم هو الصحة وهو الاقتصاد، هو التقدم والازدهار والرفاهية.
إذا كانت كورونا مِحنة عالمية؛ فإنها في الآن نفسِه منحة إلهية، وطرقة على باب أدمغة الدول النامية والمتخلفة كي تستفيق من سُباتِها العميق وتُراجع سياساتِها وتفكِّرَ في المستقبل، وتتجاوز عقلية إدمان الاستهلاك وانتظار الحلول والهبات والمساعدات من الغرب دائما. وتعملَ على امتلاك إرادتِها واستقلالِها وحريتِها وجعل مصيرِها في يدِها؛ من خلال العمل على تجاوز عقودٍ طويلة من الفساد والتخلف والجهل والأمية والديكتاتورية، ومباشرة الانخراط في سكة البناء والتنمية والتطوير والتقدم. وهذا لن يتأتَ دون نهضة تعليمية وعلمية حقيقية وشاملة.
إذ لا يجدر بنا أن نترك مصائرنا للآخرين ليُقرروا متى يجب علينا أن نجوع ومتى يجب علينا أن نأكل، ومتى يجب علينا أن نمرض ومتى يجب علينا أن نحصل على علاج، وما  الثمن الذي يجب علينا أن ندفعَه في كل مرة!
إن وجودَنا على كوكب واحد؛ يُحتم علينا أن نُحقق الفاعلية القصوى في هذا الوجود، وأن نُساهم نحن أيضا في نهضة البشرية وصحتِها وغذائِها وتقدُّمِها ورُقيِّها؛ لا أن نبقى مُجرّد أرقامٍ للإحصائيات الدولية في المُلمات وفي المَغرَمِ دون المغنم.

 

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

تعليق واحد

  1. التعليم عن بعد في غير محله وليس حلا لان التلاميذ وحتى اباؤهم غير مؤهلين لتصفح الانترنيت ووو عدد كبير من التلاميذ لا يفهمون دروسهم مباشر من استاذهم فكيف سيفهمون عن بعد وووو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى