نقد

لماذا تتوقف المجلات العربية ؟

 

توصل مؤخرا الكتّاب الدائمون والعابرون برسالة إخبار من رئيس تحرير مجلة «الإمارات» الثقافية، يعلن فيها عن توقفها عن الصدور نهائياً إلى جانب مجلات مركز سلطان بن زايد الأخرى. صدر العدد الأول من هذه المجلة سنة 2012. وخلال ثماني سنوات صدر منها 86 عددا. لم يختلف مصير هذه المجلة عن نظيرتها «دبي» الثقافية التي صدرت سنة 2004، وتوقفت عن الصدور سنة 2016.

عندما قرأت الرسالة تساءلت: لماذا تنتهي المجلات الثقافية عندنا بعد عدة سنوات، في الوقت الذي نجد بعض المجلات الأجنبية تعمر عدة عقود، وتتجدد باستمرار، مع تغير الإبدالات المعرفية والثقافية؟ ويكفي أن أضرب لذلك فقط مثال مجلة «إسبيري» الفرنسية، التي بدأت بالصدور سنة 1932، وما تزال مستمرة إلى الآن؟ ويضم موقعها في الفضاء الشبكي كل الأعداد لمن يريد الحصول عليها.

ظل هذا السؤال يولّد لديّ أسئلة أخرى عن واقع اهتمامنا بالثقافة والإعلام الثقافي. لقد كانت السنوات الخوالي تقضي بإغلاق المجلات التي تتعارض مع الاتجاه العام للدولة، وأتذكر في هذا السياق، سنوات الرصاص، التي منعت فيها في وقت واحد أربع مجلات مغربية دفعة واحدة. لقد تغيرت أمور كثيرة، ولم يبق المنع يمارس كما كان سابقا، فلماذا يتوقف الثقافي الجاد، أو على الأقل يتراجع، في الوقت الذي تهيمن فيه ثقافة الترفيه، والرياضة، التي تغزو قنواتنا ووسائل إعلامنا؟

إن توقف مجلة أو جريدة في واقعنا، مثل غياب كاتب أو مفكر بسبب الموت عن مواصلة الإنتاج الإبداعي والفكري والثقافي. لكن مع فارق أساسي هو أن الوسيط الثقافي يمكن أن يتواصل بتغيير المسؤولين عنه، أو تقاعدهم، لأن ما تحقق من خلاله في حقبة معينة من الإشراف والتسيير، دال على حقبة ثقافية معينة، ويمكن أن يستمر ذلك بتغيير هيئة التحرير، أو التوجه الذي كانت عليه. إن المجلات والجرائد معالم في ثقافات الأمم وتاريخها. وهي في ذلك لا تختلف عن المآثر العمرانية، أو المنجزات التاريخية المهمة. إنها تمثل ذاكرة جماعية ساهم فيها المبدعون والكتاب والمفكرون. ويمكن ممارسة التأريخ الثقافي لأمة من الأمم من خلال ما عرفته في حقبها المختلفة من وسائط للتواصل والتفاعل بين المشاركين فيها من منتجين ومتلقين. هل يمكننا مثلا التأريخ للثقافة العربية الحديثة والمعاصرة بدون استحضار مجلات مثل «الهلال» و»الآداب» و»العربي» و»شعر» و»مواقف» و»فصول»؟

كم من المجلات الثقافية العامة، والمتخصصة، والشهرية والفصلية التي ظهرت في تاريخ الدول العربية الحديثة؟ ما مدى اهتمامنا بها كتراث حي ومعاصر؟ وما مدى إقدامنا على استثمار الوسائط الجديدة لجعلها في متناول القراء والباحثين؟

ما دمنا لا نرى في المجلات التي تطبع حقبا من تطور الثقافة العربية معالم ومآثر، نعمل على استمرارها، وصيانتها، والحفاظ عليها في حال زوالها، عبر أرشفتها وجعلها حاضرة أبدا، ورقيا ورقميا، فإننا نعرض ذاكرتنا الثقافية للنسيان والتلاشي. وبدون ربط مستقبلنا بماضينا، نخلق أجيالا لا علاقة لها بالتاريخ والمستقبل. لقد عملت مجلة «الكلمة» منذ صدورها على أرشفة بعض المجلات العربية، واستقلت «مؤسسة صخر» بهذا الأرشيف، وكان هذا العمل ثمرة رؤية جادة ومهمة، لا يمكن سوى التنويه بها.

ولعل التعريف بهذا الأرشيف لدى طلبتنا، ودفع الباحثين من طلبة الماستر والدكتوراه إلى البحث فيه من الضروريات التي تسهم في دراسة تاريخنا الثقافي الحديث دراسة نقدية من منظور يراعي السياق الذي تشكل فيه. إننا بدون هذه العلاقة مع ما تحقق لا يمكننا أبدا فهم تاريخنا القريب من أجل التفكير في تاريخ مفترض. كما أن القراءة الجادة تكشف الكثير من الجوانب التي لم يتم الالتفات إليها في زمانها، وهي ما تزال تفرض نفسها علينا، وعلينا العمل على ترهينها وتعميقها.

كم من المجلات الثقافية العامة، والمتخصصة، والشهرية والفصلية التي ظهرت في تاريخ الدول العربية الحديثة؟ ما مدى اهتمامنا بها كتراث حي ومعاصر؟ وما مدى إقدامنا على استثمار الوسائط الجديدة لجعلها في متناول القراء والباحثين؟ أتذكر حين كنت أزور مكتبة المجلس البلدي لمدينة ليون الكبرى، وهي تتكون من عدة طوابق، كيف أنها تزخر بكل ما يتصل بالمدينة، مسجلا على مختلف الوسائط الورقية والصوتية والصورية. كنت بصدد معاينة مخطوطة «سيف التيجان»، وكنت أرى باحثين يتصفحان عددا من جريدة صدرت في ليون أواخر القرن التاسع عشر، وهما يبحثان فيها حول موضوع يتعلق بالجانب الرياضي؟ هل يمكننا أن نجد التراث الصوتي والصوري، وأرشيف المجلات والجرائد التي ظهرت في مدينة مثل الدار البيضاء منذ 1907 إلى الآن في «مكتبة» خاصة في البلدية؟ أظن ان الجواب عن هذا السؤال مثل البحث عن الكبريت الأحمر. فالأحزاب والإذاعة، والتلفزيون، وسواها ليس عندهم أي صورة عن أرشيف تم تقديمه قبل بضع سنوات، فبالأحرى الحديث عن عدة عقود.

لن تساءل عن الأسباب الكامنة وراء توقف المجلات والجرائد. هناك أسباب وجيهة، وأخرى لا أساس لها. من السهولة بمكان إعلان التوقف ما دام بالإمكان مناقشة الأسباب الوجيهة بهدف التغلب عليها. كما أنه من الأسهل تجاهل الأدوار التي تلعبها المجلة في الحياة العامة، لأننا لسنا معنيين بالبحث في ذلك، لكن الأخطر من ذلك يكمن في ممارسة المحو، وتعريض الذاكرة الثقافية الجماعية للنسيان.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى