الدراسات الأدبية

الأدب والالتزام .. ترجمة محمد الداهي

 

أنتمي إلى جيل مغربي مخضرم واكب مرحلتين تاريخيتين: ما قبل استقلال المغرب وما بعد استقلاله. اتخذت المثاقفة- إبان الحماية- صبغة إلزامية لفرْنسة اللغة سعيا إلى الهيمنة الثقافية الشاملة. في حين كان لحضور الثقافة العربية الإسلامية – التي تضرب بجذورها العميقة في التاريخ والذاكرة- دور في مقاومة الاحتلال الفرنسي بالاستفادة من التحديث الذي طال اللغة العربية في الشرق الأوسط، ومن تجارب حركات التحرر التي شهدتها المنطقة نفسها.

تابعت دراستي- إذاً- في مدرسة أنشأتها الحركة الوطنية المغربية لمناهضة مشروع الفرنسة. وهكذا ظللت على اتصال مباشر بلغتي الأم، وأخذتني الفتنة فيما قرأته من معلقات العصر الجاهلي، ومن أشعار أبي نواس والمتنبي، وأعجبت- على وجه الخصوص- بالتخييل الخلاب الذي تحفل به عوالم “ألف ليلة وليلة”.

أتاحت لي إقامتي بمصر(1955-1960) اكتشاف غنى اللغة العربية، وخاصة عن طريق اللهجة المصرية القريبة من العربية الفصحى، والحافلة بتعابير مبتكرة وجدت في السينما خير دعامة لتليين ونشر اللغة ”

الثالثة” التي اشتد عودها بفضل المسلسلات العربية المتلفزة.
مكنتني إقامتي في مصر- على وجه الخصوص- من استيعاب الرهانات الكبرى للأدب العربي المعاصر. وجدتني- بصفتي كاتبا ناشئا- مشدودا إلى التيار الواقعي أو الواقعي الاشتراكي الذي كانت تدعمه الناصرية. واتسمت هذه المرحلة ايضا بالتأثير الذي خلفه تنظير سارتر لمفهوم الأدب، وذلك بعد أن صدرت ترجمة كتابه ” ما الأدب؟” إلى اللغة العربية في بيروت عام 1959.

كانت الحداثةُ- في مجال الإبداع الأدبي والفني- من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الطليعة الأدبية العربية -في أواخر عقد الستينات من القرن الماضي. ومن ثمة وجدت نفسي أمام ثلاثة مسالك تجذبني إليها بصفتي كاتبا ناشئا يتطلع إلى المساهمة في بناء مغرب ما بعد الاستقلال على نحو يستجيب لانتظارات مجتمع متعطش للتغييرات العميقة.

تمثلت هذه المسالك الثلاثة في ثلاثة اتجاهات فنية: الواقعية بمختلف تلويناتها، الالتزام على الطريقة السارترية، الحداثة المستلهمة من كبار الكتاب في العالم.

إنْ كانت الواقعية قد أثرت في جزء كبير من الأدب العربي طيلة القرن العشرين لبواعث سياسية أو اجتماعية، فقد جسد الالتزام السارتري العنصر المفتقد في بناء صرح ” القومية العربية” التي دعت إليها الناصرية وحزب البعث. كان الكتاب العرب- في هذه الفترة- يبحثون في الوجودية عن مفهوم ” الحرية المسؤولة” لإبراز أهمية الفرد في تشييد مجتمع متحرر وديمقراطي.

من الطبيعي أن أكتب –وقتئذ- نصوصا متأثرة بالهم الواقعي والوجودي. لكن إقامتي بباريس للدراسة ( 1970-1973) أتاحت لي التعرف- عن قرب- إلى مختلف التيارات الأدبية الطليعية ذات صلة بالحداثة وما بعد الحداثة. وهكذا لاحظت أن انحسار الالتزام الأدبي في أوروبا أشرع الباب أمام مساءلة مفهوم الأدب وإمكاناته.
أعاد الأدب العربي الطليعي في عقد السبعينات – أسوة برجع الصوت- النظر في علائقه بالمجتمع واللغة العربية المحاطة بهالة من التقديس، فانبرى يبحث عن أشكال جديدة تناسب أكثر المشهد السياسي الذي ظل مهمشا لمدة طويلة.

عندما أتحدث عن الحداثة الأدبية العربية لا أغض الطرف عن هشاشتها، وذلك لكونها لا تستند إلى جذور أو دعامات كافية تخول لها التجسد في الواقع الاجتماعي والسياسي. ومع ذلك استطاعت هذه ” الحداثة الهشة” أن تؤثر في الأدب، وتشق مسارا هاما للتحديث.

ومع مر الأيام، لاحظت أن هزيمة الجيوش العربية عام 1967 أمام الجيش الإسرائيلي، ساعدت على بلورة ” ثقافة منشقة” عن الأنظمة العربية المستبدة و الجائرة.

وقد مثّل هذا الانشقاق –فعلا- تحولا هاما في مسار الأدب العربي المعاصر إلى درجة أنه فك ارتباطه ب ” المتخيل القومي” الذي كان يعزز- فيما قبل- التلاحم بين المجتمع المدني والقادة السياسيين إبان فترة مقاومة الاستعمار. أدت هذه القطيعة- منذ عقد السبعينات – إلى عودة ضمير المتكلم بقوة متجرئا على تمثيل التطلعات العميقة للفرد، والتعبير عن الرغبات التي كانت الوصاية الأبوية تكبح جماحها.

إن انعطافة “انشقاق الأدباء” أشر على بداية الالتزام والمقاومة، وما زال مفعولها مستمرا إلى اليوم. في نظري، يمكن أن تختزل خصائص الأدب العربي والمغربي الجديد- الذي أنتسب إليه- في ثلاثة مظاهر:

1- إن ” التحرر” من وصاية الأيديولوجيات والخطابات الوعظية يتيح إمكانية اكتشاف ” مناطق” أخرى للالتزام وحرية التعبير وتوسيع نطاقها، وذلك على نحو وصف الإخفاقات السياسية والاجتماعية، ومساءلة “الدوكسا” وقيم المتخيل الوطني.

2- ينبغي إعطاء الأولوية للقضايا التي تحظرها وتطمسها “الدوكسا” المهيمنة، وذلك بإبراز التجارب الشخصية، والرغبات والاستيهامات الحميمية أو بعبارة منح أهمية أكثر للفرد في صراعه مع التقاليد الماضوية.

3- تُعطى الأسبقية- أيضا- للاستيطيقا التي تضمن مسافة فنية لحماية النص من لغة الأيديولوجية الطنانة.
يمكن للأدب- بفضل التباعد الفني والتجريبي-أن يجسد شكلا لمقاومة صنوف الحيف والاستبداد. وكما هو معلوم، شهدت الدول العربية منذ عام 2000 تحولات سريعة وفق منحيين متعارضين:

أحدهما وضع الأنظمة العربية- منذ دجنبر 2010- في قفص الاتهام. ويمكن أن نستنتج من “الربيع العربي” دلالة جوهرية مفادها الإصرار على إقامة علاقة قوى جديدة بين الدولة والمجتمع المدني. وتقوم هذه العلاقة على الديمقراطية والاعتراف بحق المواطنة.

وثانيهما يخص تفكك البنيات النظامية والاجتماعية لكثير من الدول العربية بسبب استقواء الحركات الأصولية الإسلامية التي تستخدم الدين لمآرب سياسية، ولجوء التيارات المتطرفة إلى الممارسات الإرهابية والمتوحشة، التي تهدد الفضاء الحيوي الذي تتقاسمه الدول العربية فيما بينها.

إن ما آلت إليه هذه الوضعية من انحطاط وحروب أهلية تحفز الكاتب على اتخاذ المسافة إزاء ما يحدث، خاصة وأنه مهدد دوما بالقتل من لدن الجهات المتطرفة.

ليس موقف الكتاب العرب رفضا بسيطا وظرفيا، ودعما غير مشروط للأنظمة الفاشلة، وإنما هو التزام يرنو إلى مستقبل منبعث من الدمار والفوضى.

وفي هذا السياق، على الأدب العربي أن يسهم في التنديد بالاستبداد المطلق وبالخطر الذي يجسده أعداء الحياة. وحتى يؤدي الدفاع عن الحياة دوره بالفاعلية المنشودة، ينبغي للأدب أن ينفتح على كل القضايا والأسئلة التي يضج بها الواقع الآيل للدمار. أو بمعنى آخر، إن المكاسب الفنية والدلالية التي حققها الأدب العربي منذ عام 1960 تسعف على استيحاء كل المواضيع دون قيد، وإثارة الأسئلة المحظورة تطلعا للمساهمة في بلورة وعي جديد جدير ” بربيع عربي” عصي على الإجهاض.

إن التزام الكاتب العربي المعاصر- كما أوضح جاك رانسيير في كتابه “سياسة الأدب2007″- يقتضي أن نأخذ بعين الاعتبار الاختلاف الجوهري بين السياسة والكتابة. إذا كانت السياسة ” شكلا خاصا لممارسة جماعية” فإن الأدب هو ” ممارسة تُعنى بفن الكتابة”. لتحقيق الديمقراطية الأدبية، يجب التخلي عن أية تراتبية ” بين المواضيع والشخصيات. ليس هناك مواضيع رفيعة وأخرى رديئة”.

إجمالا، على الكاتب العربي أن يحرص- في التزامه- على هذه التمايزات التي تضمن خصوصية الكتابة، وتؤهلها إلى الانخراط في شمولية الحياة.

# نص المداخلة التي قدمها محمد برادة بالفرنسية في ندوة عن ” الأدب والالتزام” بتوس عام 2014.

 

محمد الدّاهي

باحث أكاديمي مغربي، أستاذ سيميائيات السرد والسرد الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مكلف بفحص وتقويم وتحكيم أعمال علمية وأدبية قصد المُدارسة والنشر، عضو في فرق البحث والمختبرات ذات صلة بالتخصص، عضو في عدد من المَجلات العربية: الثقافة المغربية، فكر، كتابات معاصرة، الخطاب، سمات، المقال..، عضو اللجنة الوطنية للتقويم والمصادقة التابعة لوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي (مادة اللغة العربية)، عضو اللجنة المُكلفة باختيار المؤلفات الخاصة بمادة اللغة العربية في التعليم الثانوي التأهيلي. صدرت له عدَّة مؤلفات في النَّقد الأدبي وفي البيداغوجية. حاصل على جائزة المغرب للكتاب لسنة 2006 في صنف الدراسات الأدبية والفنية.

‫6 تعليقات

  1. ما قيلَ لا يتناطح فيه كبسان. الأستاد قامة علمية وازمة في. أكتر ما يتميز به الموظوعية والصدق. رغم أنه تخصص في التطويع فإنه لا يستخدمه في التلاعب بطلبته. نرجو أن يستمر بالعمل بضميره النقي. ونحن نعرف أن له قلبا رحبا قادراً على قبول الإختلاف ويؤمن بإمكانية تفوق الطالب على الأستاذ…وشكرا للموقع المتميز

  2. الأستاذ محمد الداهي استاذ عظيم جدا…وهو يقوم الآن بإعداد جيل من المفكرين الذين سيتفوقون عليه قريبا…

    1. الاستاذ الدكتور محمد الداهي؛ قامة علمية ومعرفية وفكرية وازمة في المنظومة الاكاديمية في المملكة المغربية. ويستحق كل الشكر والتقدير والامتنان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى