تربية وتعليمفكر وفلسفة
أخر الأخبار

الامتحانات وتدجين الإنسان .. كيف نظرَ ميشيل فوكو إلى الامتحانات؟!

“تبدأ الامتحانات الدراسية في المراحل التعليمية المختلفة؛ حتى تعلن حالة الطوارئ القصوى في البيوت، وكأن إعصارا عاتيا سيضربها، وتدق أجراس الإنذار معلنة توقف الزيارات الاجتماعية وانقطاع التواصل المرئي والمسموع وإغلاق كل قنوات الربط الخارجي مع العالم.


يغلق التلفاز نهائيا، أو يسحب إلى غرفة الأم، وتُصادر الجوّالات وتقنيات التواصل التي بأيدي الأبناء، وتمنع الزيارات وتصبح الأحاديث همسا منعا للإزعاج، وترابط الأم في المنزل كالليث الهصور الذي يحمي عرينه من غارة المعتدين، ويتحول المنزل إلى ساحة حرب”.


وبهذا تتحول الامتحانات من أداة لقياس مدى معرفة الإنسان لمعلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، إلى اعتبارها مسألة تمس هوية الفرد، “تهدد الوجود والكيان الإنساني وتؤثر في شخصية المرء حتى أعماقها وجذورها”.


ولتغدو الامتحانات ليست منحصرة في إطار استدعاء للمعلومات فقط، بل “سبرا للمعلومات وغير المعلومات، حتى لكأن الامتحان وُجد لتقييم ذات الإنسان وليس لمعلوماته، يقيّم شخصه ومُثله وأخلاقه، إلخ”.


وتترسخ هذه الفكرة أكثر فأكثر من خلال الاستعارات أو العبارات المصاحبة للامتحانات: “يوم الامتحان.. يوم يكرم فيه المرء أو يُهان”، وما يقوم به بعض الآباء والأمهات من جعل تفوق ابنهم الدراسي شرط محبتهم إياه، كأن يرددوا على مسامعه: “لن أحبك إن لم تأخذ علامة جيدة في مادة الرياضيات” -مثلا-، أو يقولون له: “إن أنت أخذت الأول على المدرسة، فسوف أعطيك كذا وكذا أو أرضى عنك، إلخ”.


وبإزاء تلك المظاهر التي تلاصق مرحلة الامتحانات التي أشرنا إلى شيء من مظاهرها؛ تداعى التربويون والمشتغلون بالتعليم والتدريس إلى محاولة تجاوز مشاكل وآفات الامتحانات، تارة بتنويع طرق الاختبارات، وتارة بتهيئة الظروف المناسبة لتقليل حالة الخوف والقلق منها، وغير ذلك ممّا يُتداول في أبحاث وكتب “القياس والتقويم التربوي”.


وبالتجاور مع التربويين، والمختصين في التعليم والتدريس، الذين حاولوا تلافي المشكلات المصاحبة للامتحانات، عمد الفلاسفة والمفكرون إلى توجيه انتقادات جذريّة إلى فكرة “الامتحانات” ذاتها. من أمثال المفكر الفلسطيني منير فاشه على الصعيد العربيّ.


ومن أمثال ميشيل فوكو على الصعيد الغربي، الذي أسس للإطار النظري لفهم عملية الامتحانات، وكيف يتم تفعيلها كأداة من أدوات السيطرة الناعمة التي تستخدمها السلطة؟! فكيف نظر فوكو إلى الامتحانات الدراسية، وكيف حاول تحليلها؟


  • ميشيل فوكو: السلطة والمعرفة

تمثل مسألة تحليل العلاقة بين المعرفة والسلطة أهم أفكار ميشيل فوكو التي بسطها على طول مؤلفاته، ويختلف مفهوم المعرفة والسلطة عند فوكو عن المفاهيم التي تناقش علاقة العلم بالسياسة، أو علاقة العلم بالهيمنة، وذلك لما يتمتع به من خصوصية وجدية.


فالفلاسفة والمثقفون بشكل عام في نظر فوكو “يبررون هويتهم وخصوصيتهم وحتى نخبويتهم عن طريق إقامة حاجز منيع يفصل بين عالم المعرفة الذي يعتقد بأنه عالم الحقيقة والحرية، وبين عالم السلطة وممارساتها.


غير أن الشيء الذي أدهشني عند دراستي للعلوم الإنسانية هو أنه لا يمكن أن نفصل إطلاقا بين نشأة كل هذه المعارف وبين ممارسة السلطة”.


يتحدد إذن مفهوم المعرفة-السلطة عند فوكو بالجمع والربط بينهما، وليس بالفصل أو التمييز كما هو الحال عند غالب المفكرين والفلاسفة. وهذا الجمع يؤدي إلى نتيجة أساسية وهي أن السلطة تنتج نوعا من المعرفة وتؤدي إلى تراكم المعلومات والمعارف.


مما يقود إلى استخدام كل ذلك من أجل المزيد من ممارسة السلطة، وبالمقابل فإن المعرفة هي بحد ذاتها سلطة!


ولعل المثال الواضح في هذا الشأن -كما يرى الباحث التونسي الزواوي بغورة- هو الأستاذ أو المعلم، الذي يحمل معرفة، وفي الوقت نفسه يحمل سلطة، سلطة النجاح والرسوب، أو سلطة الإجازة أو عدم الإجازة.


لذلك يرى فوكو أنه “حيثما توجد السلطة توجد المعرفة أو نوع من المعرفة، وحيث توجد المعرفة يوجد حد معين من السلطة، وأن مجرد ممارسة السلطة يؤدي إلى خلق المعرفة وتجميع المعلومات وبالتالي استخدامها، وأيضا فإن ممارسة المعرفة تنتج بالضرورة نوعا من السلطة”.


  • تحليل فوكو للامتحانات على ضوء المعرفة والسلطة

عطفا على ما سبق؛ يعتقد ميشيل فوكو أنّ النظام والضبط في المجتمعات المعاصرة لا يمارس من خلال الاستعراض الفظ لقوة وسلطة الدولة: “الإعدامات في الساحات العامّة والمواكب الضخمة والاستعراضات العسكريّة، وإلخ”، ولكنه يمارس من خلال ما يسميه “نظم إنتاج المعرفة”.


ويعتقد فوكو أن السلطة تؤكد وجودها من خلال عدد من العمليات الصغيرة وصفها بـ “أعمال صغيرة دائمة لها قدرة كبيرة على الانتشار” تلبي الحاجة إلى المعرفة التي يعتمد عليها النظام، كالسجون والمستشفيات والمدارس ونظام العدالة والطب النفسي، وإلخ.


وعليه فإن نجاح النظام وقوة الضبط في هذه الأعمال يستمد فاعليته -كما يرى فوكو- من استخدام أداتين بسيطتين:
1- الرقابة التراتبية.
2- العقوبة الضابطة.
ومن خلال دمج هاتين الفكرتين في إجراءات معينة، تنشأ الاختبارات (examinations) وتعرف هذه الأدوات بـ “تقنيات القوة” (technologies of power).


  • الرقابة التراتبية

ناقش فوكو الملاحظة الهرمية من منظور هندسة السجن النموذجي المسمى بـ “البانوبتية” (Panoptisme)*1، وهو السجن الذي صممه الفيلسوف وعالم الاجتماع جيرمي بنثام في عام 1785 بحيث يقف برج المراقبة بمنتصف السجن، والسجناء من حوله، ليمثل البرج نقطة مركزية في السجن قادرة على رؤية الجميع في حين أن الجميع لا يستطيعون رؤية من بداخل البرج بسبب ما يحيطه من ظلام.


وهناك يدرك كل نزيل في السجن أنه يعيش تحت مراقبة دائمة ومتواصلة من قبل حارس مجهول بالنسبة إليه، “لدفع النزيل إلى الاقتناع بوجود مراقبة دائمة وبذلك تتأكد الوظيفة الآلية للسلطة”.


ويناقش فوكو أن المعلمين يقومون بالشيء نفسه من خلال اختبار الطلاب، بحيث يذكّرون الطلاب بأنهم تابعون للبالغين الذين يستطيعون مراقبتهم من موقع السلطة. إضافة إلى أن الطلاب “يستدخلون” معرفة أنهم يخضعون للمراقبة الدائمة، أي إجراء الاختبارات مما يؤدي إلى عواقب وخيمة، حيث تصبح هذه المعرفة جزءا من ذواتهم، وعليه، فإن إدراك الأفراد بأنهم خاضعون للمراقبة والملاحظة تعد وسيلة قوية للضبط والتنظيم.


  • العقوبة الضابطة

وتعني العقوبة الضابطة “العملية التي تقيس كميا وهرميا قيمة قدرات الأفراد، ومستوياتهم، وطبيعتهم، وكذلك اقتفاء أثر المحددات التي تحدد الاختلاف، وعلاقتها بجميع المتغيرات”.


وتعود فكرة العقوبة الضابطة إلى كونها أداة استُخدمت أصلا لوظيفة تصحيحية في السجون من خلال إخضاع النزلاء جميعهم لمنظور واحد، ومسطرة واحدة، تتمثل في تقليص الأبعاد المتعددة للتنوع البشري إلى متصل ثنائي القطب (موجب/سالب) ومن ثم تسمية نقاط محددة على هذا المتصل بالمدى الطبيعي والباقي غير الطبيعي أو الشاذ.


وهكذا فإن الطلاب الذين يكون حاصل درجات ذكائهم أدنى من الدرجة المحددة يعدون أفرادا “دون المستوى الطبيعي” والذين يطلق عليهم تارة الحمقى، البلهاء، المعتوهين، الكسالى، الأغبياء، في مقابل الطلاب الذين تجاوزت درجات ذكائهم عتبة محددة يسمون بالموهوبين والأذكياء والمبدعين.


وخطر هذا الأمر يكمن فيما يُسميه “فوكو” بـ “الغرس المنحرف”، وذلك حين يُجعل جَهْلُكَ بمعرفة معلومة في مُقرّر، أو معالجة مفردة في موضوع، “انحرافا” يتحول إلى طبيعة باطنية “ماثلة في كل مكان” تذكرك دوما بأنّك فاشل وسيئ وغبي وكسول وأبله، وإلخ.


وختاما، وحيث لا سبيل لتغيير طبيعة النُظم التعليميّة وأدواتها السُلطويّة على المدى القريب، يبقى الوعي الإنساني بأنّ هذه الامتحانات ليست “لذاتي بل لمعلوماتي” هو الرهان الأكبر لمجابهة هذه الأحكام التي تنتجها الامتحانات، والتي يراد من خلالها تدجين الإنسان وتفصيله على مقاسات السلطة.


  • هوامش:

*1: البانوبتية = Panoptisme من بانوتيك، وتعني مشْتَمَل: بناء مصنوع بشكل يمكن اشتمال/معرفة ما بداخله بنظرة واحدة، وربما يقابله في العربية الصرح الممرد من قوارير، والبناء البانوبتيّ بناء معروف في الفن الإسلامي كما يرى عبد العزيز العيادي.


وعرف هذا البناء في المساجد الجامعة حيث كان الخطيب يطل من مكانه على كل من في الجامع، وقد كان يقال إنّ ابن الهيثم بنى للحاكم بأمر الله الفاطمي مسجدا جامعا مشرفا وموصلا للصوت دون مكبرات. (من ترجمة د. علي مقلد لكتاب “المراقبة والمعاقبة، ميشيل فوكو”)


المصدر

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

‫2 تعليقات

  1. مقال جيد، حيث يجب كذلك، اعادةالنظر في الطرق الكلاسيكية لاختبار قدرات الطلاب و الممتحنين،من خلال التخلي عن منطق الاستظهار و الحفظ…و اللجوء الى اذكاء القدرة على التحليل و المناقشة وغيرها من الطرق البيداغوجية الحديثة.
    للاضافة، انا من المهتمين بكتابات واراء فوكو”المفكر الزئبقي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى