أخبار ومتابعات

حَكمت المحكمة نهائياً: سجن الناشر خالد لطفي خمس سنوات

 

لم يحدث، فيما يتذكر المرء مما رأى أو قرأ، أن صدر حكم نهائي لا رجعة فيه بسجن أحدهم فترة طويلة بسبب كتاب. طوال الوقت يتعرض المثقفون المصريون والعرب لخطر السجن عقاباً على تجاوز السقف الديني أو الجنسي أو السياسي، ولكن عادة يتم إنقاذ الموقف في لحظة ما.

قد تكون حالة الكاتب أحمد ناجي هي أقسى ما رأيناه منذ وعى جيلُنا على الثقافة في مصر. حُكم عليه بعامين سجن بعد أن نشر فصلاً من روايته “استخدام الحياة” في جريدة أخبار الأدب بتهمة “خدش الحياء العام”، قضى منهما عاماً قبل أن يخرج في تفصيلة قانونية لا أفهمها جيداً تتعلق باستئناف أو معارضة على الحكم. مع ذلك كانت حالة شديدة القسوة على الثقافة المصرية.

وأمس الأول رفضت محكمة النقض العسكرية طعناً قدمه محامو الناشر المصري خالد لطفي على الحُكم بسجنه خمس سنوات، ليصير حُكماً نهائياً واجب التنفيذ، عقاباً له على نشره طبعة مصرية من كتاب “الملاك” للإسرائيلي يوري بار يوسف مُترجماً عن الإنكليزية، وذلك بعد كل المحاولات الممكنة لوقف تنفيذ الحكم، كل المحاولات فعلاً، بداية من قرار أسرته عدم إعلان القبض عليه حتى لا يتحول الأمر لدى البعض لمنطقة نضال تستفز السلطة أكثر، مروراً بالمناشدات والتوسلات والبيانات من قبل أغلب المثقفين المصريين والعرب، ومن معارضي السلطة ومؤيديها، إضافة لتضامن الاتحاد الدولي للنشر، بمنح خالد لطفي جائزة الاتحاد السنوية للمدافعين عن حرية النشر. الجميع أمل أن يكتفي الغاضبون منه بحوالي عام ونصف العام أو أكثر قضاها محبوساً على ذمة القضية، وعدد من جلسات المحكمة للنظر في إمكانية إلغاء الحكم، أمل يتجدد كلما تأجل الحُكم الأخير جلسة تلو الأخرى، ولكن قضي أمر خالد، وأصبح لا مفر من قضاء مُدة السجن، إلا في حالة واحدة مُستبعدة هي العفو الرئاسي.

والجدل الذي أحدثه الكتاب يأتي من قيامه على سردية إسرائيلية تعامل الجميع على أنها “مزعومة”، تقول إن رجل الأعمال المعروف، الراحل أشرف مروان، كان جاسوساً إسرائيلياً في مصر، استغل قربه من دوائر الحكم كونه زوج ابنة جمال عبد الناصر وأحد مستشاري الدولة في تلك الفترة ثم فترة حكم السادات، وكيف أن خدماته للكيان الصهيوني أنقذت حياة آلاف الإسرائيليين أيام حرب أكتوبر 1973.

ولا أحد يفهم سبباً وجيهاً للإصرار الشديد على عقاب خالد لطفي بأقسى ما يمكن. يقولون إن نشره الكتاب يضعه مُتهماً بإفشاء الأسرار العسكرية، وهي تُهمة تتعارض مع كون الكتاب يقدم حكاية “مزعومة” لمؤلفه كما تعامل معها الجميع، ولكن بغض النظر عن هذه التفصيلة التي قد نعتبر أن تجاهل السلطة القضائية لها هو تعبير عن مدى استفزازها من نشره، يبقى أن خالد لطفي لم ينشر الكتاب، لكنه فقط أصدر منه طبعة مصرية بينما هو متوفر في الأسواق العربية منذ فترة. والمسألة أن بعض دور النشر المصرية لجأت قبل سنوات إلى صيغة تعاون مع نظيراتها في بيروت للتغلب على الارتفاع المهول في سعر الكتب الآتية من خارج مصر منذ تعويم سعر الدولار والظروف الاقتصادية الصعبة. والاتفاق هو عبارة عن إصدار طبعة قاهرية من بعض العناوين الصادرة عن دور نشر لبنانية.

“تأييد حبس خالد لطفي لنشره كتاباً، أيا كان محتواه وأيا كانت الأسباب، هو شيء حزين، ليس فقط من أجل وضع خالد كفرد يضيع مستقبله ومستقبل أسرته، لكنه إشارة كبيرة إلى ما وصلت إليه أحوالنا من جنون وقسوة”

وكتاب “الملاك”، سبب الأزمة، كان قد صدر عن “الدار العربية للعلوم ـ ناشرون” اللبنانية، وصار متاحاً للجمهور العربي خارج مصر، قبل أن يتوفر، أيضاً، في مواقع الإنترنت حيث عالم قرصنة الكتب إلكترونياً، ثم حدث أن تحول إلى فيلم وفرّته “نتفلكس” منذ سنوات.

لم يتوقع الناشر المصري أن إصداره تلك الطبعة المصرية، من كتاب مُتاح للعالم بالفعل، سيعصف بمستقبله ومستقبل أسرته، مُتهماً بإفشاء الأسرار العسكرية، تلك التُهمة المُرعبة فيما نعيش من لحظة سياسية.
يتأمل الواحد بدايات مكتبة “تنمية”، مشروع خالد لطفي الذي صار له، بسرعة ملحوظة، أثر بالغ في الحياة الثقافية العربية وليست المصرية فقط، ذلك أنه نجح بأن يوفر سوقاً صغيرة مُكثفة للكتاب العربي في وسط القاهرة، بعدما كنا ننتظرها سنوياً في معرض القاهرة الدولي للكتاب، أو قديماً عبر مكتبة “مدبولي” الشهيرة التي انطفأت كثيراً بعد رحيل صاحبها.

وخالد شاب مكافح، بدأ حياته بالعمل في شركة تبيع الكتب، قبل أن يبدأ مشروعاً صغيراً باستيراد الكتب العربية وعرضها على طاولة في أماكن يتجمع فيها المهتمون مثل “ساقية الصاوي”، ثم تكبير مشروعه وإنشاء مكتبة “تنمية”، التي سيصبح اسمها إجابة مناسبة على أي سؤال يخص البحث عن كتاب ولو لم يكن متوافراً، فضلاً عن أن استيراد الكتب من دور النشر العربية سيوفّر على المهتمين اضطرار أن ينتظروا الموعد السنوي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب حيث تأتي دور النشر للمشاركة بإصداراتها، وذلك قبل أن يبدأ في نشر عناوين قليلة، أغلبها طبعات مصرية من إصدارات عربية لتوفيرها بسعر يناسب القارئ المصري.

تأييد حبس خالد لطفي لنشره كتاباً، أيا كان محتواه وأيا كانت الأسباب، هو شيء حزين، ليس حزيناً فقط من أجل وضع خالد كفرد يضيع مستقبله ومستقبل أسرته، لكنه إشارة كبيرة إلى ما وصلت إليه أحوالنا من جنون وقسوة، وإلى ما وصلنا إليه من قلة حيلة، وأيام صارت إمكانية التعامل معها على حافة المستحيل.


العربي الجديد

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى