الدراسات اللغوية

غياب التحليل اللغوي للخطاب السياسي

 

تسارع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية عقب أي خطاب يصدر عن سياسي؛ إلى الوقوف على عناصر هذا الخطاب، وبيان الرسائل التي تحملها هذه العناصر، وتحديد المعنيين بهذه الرسائل ودلالات ذلك.

وكان التصرف السديد أن يُعهد بهذا الأمر إلى متخصصين في تحليل الخطاب السياسي، خاصة أولئك المعنيين بالشأن المحلي أو الإقليمي أو الدولي. وهم كُثر ويجمعون بين أدوات التحليل اللغوي وأدوات التحليل السياسي.
ولكنْ؛ من النادر، بل وصار من الغريب أن يفتح المجال لرؤية علمية تحليلية دقيقة من قبل المتخصصين في هذا النوع من التحليل الذي هو تحليل لغوي في الأساس، يستأنس بأدبيات العلوم السياسية، فالخطاب من قبل ومن بعد هو لغة محملة بأنساق ثقافية متعددة: سياسية واجتماعية واقتصادية وتاريخية ودينية …. يحتاج إلى من يميط اللثام عنها.

لكن الذي يحدث هو فتح المجال لأولئك – مع التقدير للجميع – الذين صنعتهم بعض وسائل الإعلام تحت مسميات: محلل سياسي، مختص بالشأن كذا، أو الباحث في معهد كذا، أو جامعة كذا…..، وغالبًا ما يكون هؤلاء بعيدين عن النظر العلمي التحليلي الشامل المتعارف عليه في الأوساط العلمية والأكاديمية، ومن ثم يغيب عن هؤلاء زوايا وأبعاد كثيرة يحملها الخطاب السياسي، أو فلنقل لا يمكنهم التطرق إلى دلالات الجمل والتراكيب والمفردات السياسية والاقتصادية والاجتماعية… تلك التي وظفت في الخطاب.

تفسير ذلك؛ أن هؤلاء -غالبًا – يفتقرون إلى امتلاك أدوات البحث أو النظر العلمي الدقيق في هذا المجال.
كما أنهم عاجزون عن بيان المرجعيات الفكرية والتاريخية … لما وُظف من عناصر الجمل في الخطاب السياسي، لأن بعضهم إمَّا مختصون في الشأن السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي ويغيب عنهم البعد التحليلي اللغوي والتأصيلي، أو لا يهتمون به في الأساس أما جهلا بدوره في التحليل أو قناعة بما حصَّلوه من بعض الأفكار في مبادئ العلوم الاجتماعية المختلفة خاصة إذا خرج علينا بعضهم بحشو كلامه بمصطلح أو أكثر من لغة أجنبية ….

ومن ثمَّ فإن هذا النوع من التحليل يُعد من وجهة النظر العلمية تحليلًا مبتورًا أو مشوهًا، وغالبًا ما يكون مبنيًا على افتراضات لا ترتكز على دلائل واضحة أو بينات مؤكدة، اللَّهم من ربطٍ بين بعض الحوادث التي غالبًا لـمَّا يكشف عن فاعلها الحقيقي، أو لم تنل حظها من التحليل والتفسير القبلي والبعدي.

لسنا نحجر على هؤلاء المعنيين بالنظر السياسي، ولكن من الغبن البيِّن الاحتكار المعيب من هؤلاء لهذا الميدان، وأن توصد الأبواب أمام المعنيين بالنظر التحليلي اللغوي للخطاب وإقصاء مقارباتهم.

ويمكن أن تُعطى المساحة للرؤيتين معًا، حتى يكون المجهر متسعًا لالتقاط كل آفاق وزوايا الخطاب، ونخرج بتحليل ذي صبغة علمية يرقى إلى احترام عقل جمهور المتلقين على اختلاف توجهاتهم واهتماماتهم، وينهض بالوعي السياسي في مجتمعاتنا العربية.

 

مصطفى أحمد قنبر

الدكتور: مصطفى أحمد قنبر. من مواليد أسيوط 1966 (مصر)، حصل على درجة الماجستير 2001 والدكتوراه 2006 في علوم اللغة (اللسانيات). عمل في وزارة التعليم والتعليم العالي في مصر وقطر، كما عمل باحثا متعاونا في مركز الوجدان الحضاري/ وزارة الثقافة والشباب في دولة قطر. يعمل حاليا أستاذاً منتدبا في كلية المجتمع في قطر. شارك في عدة مؤتمرات وطنية ودولية في مصر، قطر، الجزائر، وتركيا. نُشِرَ له اثنان وعشرون بحثاً في مواقع ومجلات علمية محكمة وطنيًا ودوليا في: قطر، الجزائر، السعودية، وألمانيا. بالإضافة إلى تأليف ثلاثة كتب؛ اثنين منها بالاشتراك وواحد فردي: "الإملاء في نظام الكتابة العربية"، "سلطة السياق بين النص والمرسل والمتلقي"، "الحوار مع الآخــــر مُقاربة لُغويـــة لآلياته وعناصــره"، "براعة الاستهلال ودورها في التشكيل النصي ـ فاتحة سورة القدر نموذجًا"، "من إبداعات الدلالة في صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دراسة لغوية تحليلية". حكَّم ما يربو على الأربعين من البحوث العلمية المقدمة للنشر في مجلات محكمة وطنيًا ودوليا، شَغِل منصب مُحرر مساعد في العديد من المجلات العلمية المحكمة. له ما يقارب المائة مقال منشورة في صحف ومجلات داخل الوطن العربي وخارجه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى