منبرُنا

رسائل ضد الإرهاب

 

– ١ –
أنا طفل أدرس في مدرسة ابتدائية في محافظة شرقية أو غربية أو جنوبية أو شمالية أو في منتصف البلاد، فالأمر سيان أينما كان و كانت مدرستي ، كنت أحلم أن أصبح في الغد أستاذا، قُصفت مدرستي و أحلامي و أحالوها خراباً ، فجأة وجدت نفسي مشرداً بلا أحلام في أحد الخيام …*

– ٢ –

أنا طفل مراهق و للحياة عاشق ، أكسب رزقي من عرق جبيني و بسطة الدخان ، حاول أن يتسلبط علي أحد الزعران، كفرت في ساعة قهر و غضب و استغفرت ربي ، و الله غفور رحيم. فمن أنت أيها الرجل الملتحي الملتحف بالجبة و الجلباب لتحاكمني باسم الرب و تعلق مشنقتي و تتركني جثة تحكي عن زمن الكلام المباح ؟!.

– ٣ –

أنا طفل صغير أعيش مع اخوتي السبعة في بيت حقير، لكنه جنتي و قصري المنيف، أسكن إليه و فيه تسكن و تأنسه روحي ، و في ليلة سوداء من ليالي القضاء و القَدَر، دخله وحوش بهيئة بشر، أخرجوا سكاكينهم و ذبحوني و اخوتي يا أبتي لأنك قلت لا.

– ٤ –

أنا طفل لجوج ، ألحّ على أمي كل يوم من أيام شهر رمضان لتشتري لي ثياب العيد و حذاء جديد، لا أكفّ عن الإلحاح حتى أقيس الحذاء و الثياب، و أرى أمي تخبئهم في الخزانة أمام عيني، و بلحظة عابرة عبر صاروخ في جوفي، و كي لا أنقّ على أمي و أنا في القبر، فرشت لي أمي ثياب العيد و حذائي الجديد فوق تراب لحدي.

– ٥

لقد هرمت قبل الأوان حين قتلوا أبي و اخوتي الصبيان أمام ناظري بدم بارد على حاجزٍ متنقلٍ أو ثابت ، ليتهم لم يتركوني وحيدة على رصيف بارد ، يا إلهي لماذا لم يقتلوني معهم لتسكن روحي و يكفّ الناس عن اتهامي بالجنون ؟

– ٦ –

أنا فنان أعزف على الكمان أعذب الألحان، عزفت بقلبي و روحي كل أيام الغضب في شوارع حارتي الحبيبة، زرعت الأمل في قلوب الناس، و حاربت اليأس و الموت المتساقط من السماء بألحاني ، حتى صعدت روحي إلى السماء بلا عناء .

– ٧ –

أنا مجرد طفلة لم أكبر بعد، لكن مغتصبي جعلني امرأة و أنا في سنتي الثامنة ، مزق أحشائي و اقتحم غرفة انوثتي في غرفة صغيرة بمدرستي لبيع الحلوى و الشيبس، أعطاني حفنة دروبس و ملبس و كيس بطاطا شيبس ، و قال لي خذيها مجاناً لا بأس.

– ٨ –

أنا طفل في العاشرة من العمر صرت معيلاً لثلاثة أطفال ، كنت في الشارع البعيد مع اخوتي الثلاثة ألعب ، فجأة سقط من السماء برميل حقد أخطأ الإرهابيين، و أسقط البناية على رأس أمي و أبي بينما كانا يزرعان بذرة الأخ الخامس في السر على سرير الحب .

– ٩ –

أنا طفلة مغضوبة الوالدين، غضب عليهما شيخ الغضب الكبير، أخفى أبي في سرداب طويل عميق ، و اغتصب أمي في سريرها أمامي قبل أن أهرب ، أدمنت المخدر الرخيص لأخدر أوجاع الروح ، و رميت بنفسي في النهر لعله يطفئ “شعلة” ذنوبي قبل تفتح زهر الجلنار في صدري.

– ١٠ –

أنا زين الشباب، أحمل السلاح للدفاع عن وطني، و أعرف عدوي من الصديق، لم أحسب يوماً بأنني سأُقتل على يد أخي رفيق السلاح زميلي في خيمتي، و حين شيعوني إلى مقبرة الشهداء قرب بلدتي، رأيت وجه قاتلي يبكيني ، لقد كان أخي من أمي و أبي و من لحمي ودمي، لكنه أكل لحمي و شرب دمي بحفنة من الدولارات .

– ١١ –

أنا أب تجاوز الخمسين، لم يبقَ لي أهل في بلدي و لا معين، أتذكر ابني الهارب إلى ما وراء البحر و ليس لي للوصول إليه من سبيل ، أشتاقه و أناجيه بحب و حنين عندما أجلس في حديقة “السبيل” و أغني كل يوم : بدي شوفك كل يوم يا حبيبي.. ربما يسمعني ابني حبيبي ذات يوم و يعود لأحضنه من جديد .

– ١٢ –

أنا طفل رضيع، حملته أمه في مركب خفيف في البحر كيلا يضيع ، مات أهلي و ركاب “البلم” و غرق الجميع، قذفتني أمواج البحر إلى شط قريب من “النقطة” حيث تاجر بنا المهرب و هرب ، تسارعت الإنسانية للتعاطف مع قصتي، و سرعان ما ضاعت قضيتي و اسمي ، و لم يبقَ منها إلا صورة طفل غريق أكلته “غيلان” البشر.

– ١٣ –

أنا قاضي عقارات، أقضي لكثير من الناس بعض الحاجات، كنت على موعد في مقهى “الموعد” مع بعض الأصدقاء، نسيت علبة سجائري في سيارتي، و عندما اجتزت باب المقهى جاورتني قذيفة حقد طائش، قضت على حياتي قبل نطقي بالحكم.

– ١٤ –

أنا شاعر مرهف الحسّ و المشاعر، زجوا بجسدي في قبوٍ معتمٍ سحيق ، لأنني رفضت مديح شيخ الحارة. عذبوني و كهربوني و فقأوا عيوني و اغتصبوني، و عندما اخرجوني من الحبس كنت أرى بقلبي و باللمس، للأسف يراني الناس هيكلاً خالياً من المشاعر، عديم الحسّ لا أسمع الهمس !

– ١٥ –

أنا طفل بريء ، أخرجوني من بين الأنقاض و صوروني، لا أعرف من هدم البيت فوق رأسي، و لا أعرف اليد التي أنقذتني، و لا أجيد الكذب و التمثيل، فلماذا جعلتم مني نجماً قبل الأوان في الاستديوهات و خلف الشاشات؟

– ١٦ –

أنا حقل قمح أينعت سنابله و حان قطافها ، كنت انتظر صاحبي الفلاح ليقطفني بمنجله المبارك، و أرى سنابلي رغيف خبر في فم الجائعين، لكن بعض الحاقدين أحرقوني قبل الحصاد، و قالوا هذا أزعر مستهتر رماني بعقب سيجارته، فاحرقني و احترقت كل حقول بلادي.

– ١٧ –

أنا طفل لقيط ، رمتني أمي مع قنينة حليب وضعتها مع ورقة اعتذار في القماط أمام الجامع ليجمع القلوب على محبتي ، لم يكن قلب أمي غير طافح بمحبتي، لكنها تخلّت عني بسبب الفقر و القهر ، و كتبت في الورقة بشرايين القلب بأنني أبن حلال صرف .

– ١٨ –

أنا رأس أبي العلاء المعري ، و معبد بل في الصحراء ، و تمثال ابراهيم هنانو راكباً على حصانه ، جاء رجال من أقاصي الدنيا على صهوات غبار زمن الفتوحات و الرايات ، نسفوني بأحزمة الموت، و فتحوا رأسي ليزرعوا فيه أفكارهم السوداء ، هدموا المعبد و التمثال و قتلوا الحصان قائلين إنها أوثان قد يعبدها الإنسان .

– ١٩ –

أنا رسام ساخر، رسمت شيخ الحارة الماكر، خطفني الأشباح في طريقي إلى مرسمي ، ضربوني و كسروا أصابعي بالتحديد، و قالوا : هذا جزاء من يتطاول على مولانا الطويل الحلم ، فقد نفد صبره و آن لك أن تكفّ عن رسمه ، و إلا سنلحقك في عقب أبيه.
كسرتم أصابعي لا بأس، لكنكم لم تكسروا إرادتي في كشف الزيف، و سأرسم حتى آخر قطرة من دمي لو وقف في وجهي ألف سيف.

– ٢٠ –

أنا السوري وقفت في وجه العالم و صرخت : ( أنا إنسان مو حيوان.) فماذا جنيت و علامَ حصلت؟.. قلق بالغ من السيد بان كيمون أمين عام الأمم المتحدة السابق، و تغريدة من السيد دونالد ترامب في “تويتر” لترطيب خاطري تقول : أحسنت ، هو “حيوان” و ليس أنت.

– ٢١ –

أنا فرّان أصنع الخبز و فطائر الزيت و الزعتر ، و أحلم في “بيارة” برتقال يافاوي أو زيتون ريحاوي ، حاصروني في لجوئي بالمخيم ، و منعوا عني الحنطة و الطحين و الخبز، علقوا ربطة خبز على حاجز الحصار، ليتصيدوني بها كما يتصيد الإنسان الفأر ، و كلما غلبني الجوع و حاولت الخروج من حصاري، قنصوني ببنادقهم قبل وصولي إلى رغيف الخبز.

– ٢٢ –

أنا اسمي “تفاحة” شاب وسيم في مقتبل العمر، أحب بنت الجيران بصراحة، شمرت عن ساعدي و اشتغلت في بيع الوقود على “الاوتوستراد” للسيارات و الدراجات ، أعيل أهلي و أدخر للزواج من ابنة الجيران بالحلال ، ذات يوم جاءني صاروخ روسي نفد منه الوقود، و نفذ في قلبي سريعاً كسهم الحب ، لكن بالتأكيد ليس حباً بالحلال، عليّ الطلاق كان ابن حرام.

– ٢٣ –

أنا أم عجوز، شيبتني الأيام و عجنتني و خبزتني ، رفضت الرحيل عن بيتي و بلدتي الصغيرة ، ودعت ابني الوحيد – يوم قصفنا ببراميل الموت – و زوجته و أولاده السبعة، ( و لم أرهم حتى أتى نعيهم في ليلة الجمعة)..**
يا حادي العيس جفّت دموعي و أنا أقرأ خبرهم : على الحدود في طرقات التهريب بين الجبال قَصفت أعمارهم عاصفة ثلج و جليد، و ماتوا متجمدين .
يا حادي العيس لقد ماتوا برداً و سلاماً، و أشعلوا نيران الحزن في قلبي و أحرقوا روحي .

– ٢٤ –

أنا الفتى أحمد، أشهر “بويجي” على الإطلاق، تلاحقني شرطة البلدية في عاصمة عربية من شارع إلى آخر، تقبض علي متلبساً في ارتكاب العمل الشريف، و تحطم لي صندوق البويا الذي اشتريته بعرق جبين أبي الحمال، يقبضون علي أحياناً و أهرب منهم أكثر الأحيان، في آخر مرة هربت منهم إلى منور بناية من ستة أدوار، لم أكن أنوي العودة إلى بلادي، لكنهم “دفعوني” للقبول بالعودة الطوعية إلى مدينتي السورية ، فأعادني أهلي طواعية بعد ثلاثة أيام من اختفائي.. لكن جثة في كفن.

– ٢٥ –

أنا “غوغل ماب Google Maps ” شيخ الجغرافيا و الطرق و الإسطرلاب، هذا لقبي في عيون رفاقي و كل الشباب ، عرفت كل الدروب و طريقي إلى الشمال، كنت أحمل ثياباً جديدة و حلوى و أساور و أقراط و خلخال، أردت تقديمها عيدية لبناتي و أم العيال، فليس من اللائق أن يمر أول يوم من عيد الفطر السعيد و لا أُسعد قلوبهم، لكن بوصلتي أخطأت طريق العودة إلى قريتي خلف الجبال ، و باغتني الأوغاد بعيدية ضخمة بوزن “الفيل” على الهواء مباشرة ، و أرسلوا أشلاء جثتي عيدية لأهلي في صبيحة يوم العيد .

– ٢٦ –

أنا السوري في كل مكان، وقفت في وجه الطغيان، الكل حاربني باسم مكافحة الإرهاب، و أنا أول ضحايا الإرهاب ، لعنتني الأرض بمن عليها و فيها من كل الأجناس و الأديان، لكنكم يا سادة المعمورة الأشراف لم تهزموني، و لن تكسروا إرادتي في التطلع إلى غدٍ جميل تشرق فيه شمس الحق على بلادي و أولادي .


جهاد الدين رمضان – فيينا ٥ حزيران ٢٠١٩.

*شخصيات النص مستوحاة من الأخبار، و وسائل التواصل الاجتماعي، و من واقع الحياة السورية و من معارفي و أصدقائي . و الصورة المرفقة ليوم فكّ الحصار الأول عن مخيم اليرموك في دمشق، متوفرة في فضاء النت المفتوح.

**مقطع من قصيدة (يا حادي العيس) للشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زياد، غناها الفنان السوري الحلبي فهد يكن في مجموعته المسماة : أنشودة عربية للمستقبل .

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى