سرديات

في مفهوم السردية ومكوناتُها

 

للسرد، في معناه البسيط، كما جاء في لسان العرب، مفاهيم مختلفة، تنطلق من أصله اللغوي، الذي يعني – مثلاً – التتابع في الحديث، يقال سرد الحديث ونحوه، يسرده سرداً، إذا تابعه، وفلان يسرد الحديث سرداً، إذا كان جيد السماع له . ويقابل السرد، في المنجز النقدي الغربي، كلمة narratology التي جذرها narrate بمعنى سرَد، وقصَّ، وروى، لكن مصطلح narrative وهو صفة، يُترجم إلى المَروي، أو المحكي، وعندما نطلب من الجدَّة، أن تسرد لنا حكاية، فإنها تستخدم مهاراتها في القص، وبناء على ذلك، تسرد لنا الحكاية، من مبدئها إلى منتهاها، تُشوقنا تارة، وتخبرنا بحوار الشخصيات تارة أخرى، وعن المكان الذي توجد به هذه الشخصيات، وما إلى ذلك . . كل ذلك تسرده الجدة . . وبالتالي يختلف السرد، من جدة إلى أخرى، إلا أن مصطلح السرد الحديث، نحا مناحي كونية شاملة، فالأمر تعلق بمفهوم مغاير تماماً للمفهوم السردي القديم المتواضع، فالسرد، كمصطلح نقدي حديث، هو كما يقول د . عز الدين إسماعيل، في كتابه الأدب وفنونه، إنه نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورتها اللغوية .

ويعدّ مصطلح السرديّة (Narratology) مصطلحاً حديثاً نسبياً، دخل دائرة الاستخدام في فرنسا تحت تأثير البُنيوية، حيث يُشير إلى الدراسة النظرية وتحليل السرد .

ويعدّ تزفيتان تودوروف هو مَنْ ابتكر هذا المصطلح عام ،1959 بعد أن شكله من كلمة (narrative logy) أي سرد وعلم ليحصل على مصطلح علم السرد أو السردية، على أنه العلم الذي يُعنى بمظاهر الخطاب السردي أسلوباً وبناء ودلالة، ويُحيل السرد بوصفه المادة الأولية لهذا العلم على أنه: نظام لغوي يحمل حادثة أو سلسلة من الحوادث على سبيل التخييل، وهو فن تنظيم هذه المحمولات بوصفها شكلاً فنياً منتظماً بعلاقات وقواعد وأبنية داخلية تنظم عمل السرد، وذلك انطلاقاً من جذره العربي الذي يعني التنظيم وصولاً إلى المفاهيم الحديثة .

وتُعنى السردية باستنباط القواعد الداخلية للأجناس الأدبية، واستخراج النُظم التي تحكمها وتوجّه أبنيتها، وتحدد خصائصها وسماتها، ووُصِفتْ بأنها نظام نظري، غُذّي، وخصّب، بالبحث التجريبي .

وتبحث السردية في مكونات البنية السردية للخطاب من راوٍ ومروي ومروي له، ولما كانت بنية الخطاب السردي نسيجاً قوامه تفاعل تلك المكونات، أمكن التأكيد أن السردية، هي: المبحث النقدي الذي يُعنى بمظاهر الخطاب السردي، أسلوباً وبناء ودلالة . والعناية الكلية بأوجه الخطاب السردي، أفضت إلى بروز تيارين رئيسين في السردية، أولهما: السردية الدلالية التي تعنى بمضمون الأفعال السردية، دونما اهتمام بالسرد الذي يكوّنها، إنما بالمنطق الذي يحكم تعاقب تلك الأفعال، ويمثل هذا التيارَ: بروب، وبريمون، وغريماس . وثانيهما: السردية اللسانية التي تعنى بالمظاهر اللغوية للخطاب، وما ينطوي عليه من رواة، وأساليب سرد، ورؤى، وعلاقات تربط الراوي بالمروي . ويمثل هذا التيار، عدد من الباحثين، من بينهم: بارت، وتودوروف، وجنيت .

وشهد تاريخ السردية محاولة للتوفيق بين منطلقات هذين التيارين، إذ سعى غاتمان وبرنس إلى الإفادة من معطيات السردية في تياريها: الدلالي واللساني، والعمل على دراسة الخطاب السردي بصورته الكلية، في ما اتجه اهتمام برنس إلى مفهوم التلقّي الداخلي في البنية السردية من خلال عنايته بمكون المروي له، اتجه اهتمام غاتمان إلى البنية السردية عامة، فدرس السرد بوصفه وسيلة لإنتاج الأفعال السردية، وبحث في تلك الأفعال بوصفها مكونات متداخلة من الحوادث والوقائع والشخصيات التي تنطوي على معنى . وعدّ السرد نوعاً من وسائل التعبير، في حين عدّ المروي محتوى ذلك التعبير، ودرسهما بوصفهما مظهرين متلازمين من المظاهر التي لا يتكوّن أي خطاب سردي من دونهما .

ويتشكل السرد، تبعاً لمهارة الكاتب، وأسلوبه المتميز، وطريقة معالجته للقضية التي يطرحها، ويمتد ويُمط، لكي يتحوّل في يد المؤلف الفنان، كما لو كان كتلة من طين، لأي شكلٍ من شأنه أن يخدم العمل ككل، ويرتقي به نحو النموذج والشكل الصحيح الملائم .

ونحن لو نظرنا، إلى عملٍ قصصي لا بأس به، وبسطناه أمامنا، ثم التقطنا، بملقطٍ جيد، بعضاً من مكوناته، كالشخصيات مثلاً، والفكرة أو القضية المطروحة وتابوهاتها، والزمان والمكان بعينهما، والتقطنا أيضاً بعض الحشو، الذي لا يخلو منه الأمر، ثم خلطنا ما تبقى ونظرنا إليه بعيننا المجردة، لوجدنا أن ما لدينا هو كتلة جميلة وأنيقة من السّرد، ولو تمحصنا هذه الكتلة، وما بها من أشياء، لوجدنا ما يلي، جُمل قصصية مُحكمة، مبنية بالأساس أيضاً من كلمات منتقاة، من ثم فقرات قصصية جيدة، ولوجدنا الحبكة أيضاً، التي هي عبارة عن غُرز مصنوعة من تلك الجمل القصصية المحكمة، خيطت بأسلوب مميز لصانع هذا السرد، مطعمة بالحوارات بأنواعها، ولوجدنا بعضاً من الرشاقة والتشويق، ضمناً داخل الحبكة، التي هي في خيال المؤلف، وجودتها، من خصوبة هذا الخيال ودهشته، ولوجدنا دراما وصراع فرح أو حزن، أشياء كثيرة ورائعة، تُكوِّن هذه الكتلة من السرد .

ولقد أدرج كريماس، وهو أحد أبرز الذين نظّروا للنماذج السردية الكونية، مفهوم السردية ضمن كل الخطابات، بما فيها الخطابات العلمية، أو تلك التي تختص بوصفات إعداد الحساء، فبالإمكان، في تصوره، استعادة النشاط الإنساني المدرج ضمن وضعيات معينة، من خلال خطط تتضمن كل ممكنات الفعل، كما يمكن تصريفها في وضعيات مألوفة . إن الفعل، استناداً إلى ذلك، ليس فردياً كما يبدو في الظاهر، إنه يعبّر عن حالة تفاعل بين الذات التي تفعل مع المحيط الاجتماعي الذي يستوعب هذا الفعل ويقوّمه ويدفع إليه أو يشجعه أو يعوق تحقيقه، إن الذاكرة الفردية ليست كذلك إلا إذا كانت جزءاً من ذاكرة كلية، ومن دون ذلك لا يمكن الحديث عن قصة، وبعبارة أخرى، يساعدنا السرد على إدراج تجربتنا الفردية المحدودة في الزمان ضمن ذاكرة أوسع وأشمل هي ذاكرة الإنسانية .

إن الراوي، المروي أو الرواية، المروي له، هي مكونات السرد الأساسية، ويقول د . حميد الحمداني، في كتابه بنية النص السردي، إن السرد هو الكيفية أو الطريقة، التي تروى بها الرواية، عن طريق هذه المكونات، وذلك وفق النحو الآتي:

الراوي: هو المرسل، يقوم بنقل الرواية إلى المرسل إليه أو المتلقي، وهذا الراوي ما هو إلا شخصية من ورق على حد تعبير بارت . وهو يختلف تماماً، عن الروائي الكاتب، الذي هو شخصية من لحم ودم، وخالق ذلك العالم التخيّلي، الذي تتكوّن منه روايته، والروائي، بطبيعة الحال، لا يتوجب أن يظهر ظهوراً مباشراً في بنية الرواية، وإنما يستتر خلف قناع الراوي .

المروي: أي الرواية نفسها التي تحتاج إلى راوٍ ومروي له، أو إلى مرسل ومرسل إليه، وأن السرد والحكاية اللذين هما طرفا ثنائية لدى السردانيين اللسانيين، هما وجها المروي المتلازمان اللذان لا يمكن القول بوجود أحدهما دون الآخر .

المروي له: قد يكون المروي له، كما يقول د . عبدالله إبراهيم، في كتابه السردية، اسماً معيناً ضمن البنية السردية، وقد يكون، كذلك الأمر، شخصية من ورق، كالراوي، وقد يكون كائناً مجهولاً أو متخيّلاً .

ولمّا كانت مكونات الرواية، هي الراوي والمروي والمروي له، أمكن القول إن البنية السردية هي: رسالة لغوية تحمل عالماً متخيلاً من الحوادث التي تشكّل مبنى روائياً يتجاذبه طرفا الإرسالية اللغوية أي الراوي والمروي له، لتنتظم بمنظومة متكاملة من العلاقات والوشائج الداخلية التي تنظم آلية اشتغال المكونات الروائية الثلاثة مع بعضها ابتداء من الرواة وأساليب روايتهم وإجابتهم عن سؤال المروي له: ماذا حدث؟ كيف حدث؟ مروراً بمفاصل المروي أي الحدث وكيفية بنائه والشخصية وعلاقاتها الروائية والزمان وتقنياته والمكان وأنواعه، وانتهاء بتعالقات الراوي والمروي له . نستطيع أن نقول، في ظل الإشارات السابقة، إن السرد، ليس شيئاً محدداً، لذلك، فإننا، كما هو معلوم، نستطيع أن نرى ونُدرج، كم لدينا من شكلٍ واتجاه لهذا السّرد، من دون أن نُغلق الجدول، لأن الحبل متروكٌ على الغارب، ولكل مؤلف بصمته الخاصة من الخيال، وروي الحكايات، وتحويلها إلى الواقع اللغوي .

ولكن، على الأغلب، يوجد نمطان رئيسان للسرد: موضوعي وذاتي، ففي السرد الموضوعي، يكون الكاتب مطلعاً على كل شيء، حتى الأفكار السردية للأبطال، أما في السرد الذاتي، فإننا نتتبع ا لحكي من خلال عيني الراوي، وعن هذين الأسلوبين السرديين، تنشأ جملة من التقنيات المختلفة، كتقنية الراوي بضمير الأنا، أو الهو، أو الأنت .

وللرؤية السردية، نواح متعددة، لدى النقاد الروائيين، وذلك بحسب العلاقة بين الراوي والشخصيات الروائية، كما يلي:

– الرؤية من الخلف، حيث تكون معرفة الراوي أكثر من معرفة الشخصيات الروائية

– الرؤية المتلازمة، وهي الرؤية التي تتصاحب فيها معرفة الراوي بمعرفة الشخصيات الروائية .

– الرؤية من الخارج، وهي الرؤية التي تكون فيها، معرفة الراوي أقل من معرفة الشخصيات الروائية .
—————————————————————–
عثمان مشاورة.
جزء من ورقة مقدمة في ورشة الإبداع المصاحبة للدورة الخامسة عشرة من جائزة الشارقة للإبداع العربي

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى