لسانيات

النص الذي نحيا به

النص الذي نحيا به، عنوان لكتاب من تأليف الدكتور عبد الرحمن بودرع، والعنوان؛ مُستعارٌ من كتاب ليكوف وجونسون “الاستعارات التي نَحْيا بها” يُرادُ بالكتابِ البرهنةُ على أنَّ النصَّ لا يقفُ عندَ صفَتِهِ اللغويّة المركَّبةِ من أصواتٍ ومَقاطعَ وأبنيةٍ وتَراكيبَ ودوالَّ، ولكنّه فعلٌ وحَدَثٌ وإنجازٌ، يُرافقُ الإنسانَ في أحواله كلها؛ فهو فعلٌ وفكرٌ وحدثٌ كلاميّ وإطارٌ عام لنشاطاته المختلفَة في التواصل والتلقي والحديث والإنجاز والإبداع والتصور الذّهنيّ. النص إعادة تَركيب للعالَم وفق اختيارات وخطط ومواقعَ.


وعلم النّصّ وليد شرعيّ للسانيات، فهي التي أخرجَتْه من الخَلْط المعرفيّ الذي كان يكتنفُه ومن غُموضِ الحُدودِ إلى وُضوح المفاهيم والمصطلحات.

وقَد جَعَلَ المفكر اللسانيُّ “فان دايك” علمَ النص يأخذُ من البَلاغة مَفاهيمَها وتطبيقاتها، ولكنّه مَنَعَ أن تنتقلَ معياريّةُ البَلاغة الغرْبيّة القَديمَة إلى علم النّصّ.

لماذا “النص الذي نحيا بهّ ؟ والجواب: النص أنموذج لإعادة تَركيب العالَم وفقَ هيئة نفسية ومقامية مخصوصة. فإذا تأمَّلْتَ أعمالَ الناسِ واستقْرَيْتَ ما يُنجزونَ من أفعالٍ وصَنائعَ ألفيْتَهُم لا يَخرجونَ عَن قاعدةٍ كلّيّةٍ ثابتةٍ: يُعيدونَ تَركيبَ ما تَفرقَ من عَناصرَ وموادَّ يَجمَعونَها من مَيادينَ مختلفةٍ؛ فكلُّ بناءٍ يَحتاجُ من بانيه إلى وَضع تصميمٍ وإحضارِ موادِّ بناءٍ وتَركيبِ بعضِها إلى بعضٍ على أنحاءٍ مَخصوصةٍ ومَقاديرَ مَضبوطةٍ.

وكذلكَ الحالُ عندَ صانعِ الحُليِّ فهو في حاجةٍ إلى مادَّةٍ خامٍّ وعناصرَ مُضافةٍ وصورةٍ أو هيئةٍ تُخرَجُ عليْها الحِلْيَةُ. والشيءُ نفسُه يُقالُ عن كتابةِ نصٍّ أو تأليفِ كتابٍ أو نَظمِ شعرٍ أو إبداعِ مسرحيّةٍ أو روايةٍ، كلُّ أولئكَ يَحتاجُ منكَ إلى ما لا يَكادُ يَنتهي من العناصرِ وإلى رَوابطَ تربطُ بيْنَها وقَواعدَ تَحكُمُ طُرُقَ البناءِ والربطِ. وهكذا سائرُ الأعمالِ فإنها تحتاجُ إلى فكر وهندسةٍ وحُسنِ رَبط وتَدبيرٍ. وفي مثلِ ذلكَ تتنافسُ الأمم وتتفاضلُ دَرجاتُ الرّقيّ؛ فليسَ إبداعُ النصوص إلا تَركيباً لنص من أصل نصوص كثيرةٍ، وكلُّ نص يَحملُ في صُلبِه ما يُناسبُ خصائصَه وأحوالَه ومقاصدَه.

ولا يَقفُ الأمرُ مع النص الأدبي اللغوي الإبداعيّ عندَ هذا الحدّ، بَل يَتجاوزُ ذلكَ إلى أُفُق الانطلاقِ من النص الحاضر لاستكشاف بنيات النصوص الغائبَة خلفَه، فرحلةُ الاستكشافِ هذه بحثٌ في أعماق النص عَن آلياته ومؤلِّفاته وعناصره المُستوْعَبَة في أحشائه، وعمّا قيلَ، وعمّا لَم يُقَلْ، وما المانعُ من قَولِ ما لَم يُقَلْ، وكيفَ كان يَنبغي للنص أن يَكونَ لو رُفِعَ المانعُ.

ومهما يكنْ من أمر النص فإنّه يُركّبُ ولا يُبْنَى من عَدَم على غير مثالٍ سَبَقَ؛ بل «يَكتسبُ هويتَه الرمزيةَ من تَفاعُل النصوص السابقَة، على نحو ما ذهَبَت إليه “نظريةُ النص” (2)، وكانَ لمذهَب الباحثة السيميائية “جوليا كريستيفا” أثر كبير في ذا الفَهم الذي تقدَّمَ، وهو أنّ النصَّ تَركيبُ نُصوص؛ أو هو، بعبارتها، جهازُ نَقلٍ لُغَويّ يُعيد تَوزيعَ نظامَ اللغة وفقَ الدلالات الممكنة، فكلما نشأ نَسَقٌ دلالي في الذّهن نشأ تركيبٌ نصّيّ جديدٌ(3) .


  • الهوامش:

1 – G. Lakoff – M. Johnsen , Metaphor we live by, London: The university of Chicago Press, 2003

2 – النّصّ الغائبُ في القصيدَة العَرَبية الحَديثَة، عبد السلام الربيدي، دار غيداء للنشر والتوزيع، عَمّان الأردن، 2011، ص:9.

3 – عِلم النّصّ، جوليا كريستيفا، ت. فريد الزّاهي، دار توبقال للنشر، البيضاء، المغرب، ط.1، 1991م، ص: 79.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى