الأدب الرقمي

كيف نما الخيال العلمي ؟

 

يأتي كتاب أليك نيفالا لي «أستاوندنج» Astounding وكأنه لوحة جماعية رائعة تستعرض أربعة رجال ساعدوا – معًا، أو بشكل منفرد – على تشكيل النوع الحديث من روايات الخيال العلمي. هؤلاء هم الأسطورة جون دابليو. كامبل الأصغر – سريع الغضب – الذي عمل لفترة طويلة كمحرر لمجلة «أستاوندنج ساينس فيكشن» Astounding Science Fiction (ومعناها بالعربية: “خيال علمي مدهش”، وسُميت لاحقًا «أنالوج» Analog)، وثلاثة من الكُتّاب الأساسيين لديه. وقد أصبح الكاتبان آيزيك أسيموف، وروبرت إيه.

هاينلاين عملاقَين في هذا النوع من الأدب، في حين كان إل. رون هوبارد راويًا غزير الإنتاج لقصص الخيال العلمي رديئة الجودة (ومؤسِّسًا – فيما بعد – لكنيسة العلمولوجيا).

وفي ظل رئاسة كامبل التحريرية، تحولت مجلة «أستاوندنج» في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وحتى أربعينياته من مساحة لعرض قصص رديئة عن الفضاء إلى منصّة جادة لاستشراف المستقبَل، يكتب فيها عادةً علماء محترفون، مِن أمثال العالِم المتخصص في الكيمياء الحيوية، أسيموف، ومهندس الإلكترونيات جورج أو. سميث. وقد عُرفت هذه الفترة الزمنية بالعصر الذهبي لأدب الخيال العلمي. ويقدم نيفالا لي – وهو نفسه من كُتّاب هذا النوع من الأدب – قصة جذابة للصعود الواعد لهذا النوع، وسقوطه المخزي.

وقد لعب الدور المحوري في هذا التحول التأثيرُ الهائل الذي دام طويلًا للحرب العالمية الثانية على المجلة وكُتّابها، الذين انجرف العديد منهم للعمل في البحوث العسكرية. شارك أسيموف، وهاينلاين، وزميلهم الدائم في مجلة «أستاوندنج» – إل. سبريج دي كامب – في اختبار مواد الحرب في ترسانة فيلادلفيا البحرية في بنسلفانيا من عام 1942. وقد قاد كامبل – تحت إشراف قسم بحوث الحرب بجامعة كاليفورنيا – فريقًا من المؤلفين؛ لمراجعة الكتيبات الفنية الإرشادية؛ لاستخدامها في المجال العسكري. كما اشترك مع هاينلاين، ودي كامب في عصف ذهني؛ بحثًا عن ردود أفعال مبتكرة؛ للتصدي لعمليات كاميكازي الانتحارية. ومن بين ردود الأفعال تلك، كشْف الطائرات المقتربة باستخدام الصوت.

ورغم معرفته بأن نشر القصص التي تتناول الأشكال الجديدة المحتمَلة للتكنولوجيا العسكرية سوف يتعارض مع الرقابة المفروضة في زمن الحرب، فهذا عين ما فعله كامبل – عنيد الطبع – في مارس عام 1944. وجاءت قصة كليف كارتميل «ديدلاين» Deadline لتضع تصورًا لاختراع قنبلة نووية باستخدام نظائر اليورانيوم. وقام كامبل – وهو فيزيائي محنك، كان يساوره الكثير من الشك في كون الحكومة تعمل بالفعل لتطوير سلاح كهذا – بتسريب تفاصيل تقنية إلى كارتميل، الذي رسم حبكة القصة، وكأنها تدور على كوكب آخر. (وقد أطلق كارتميل بدهاء على الكائنات الفضائية المتحاربة اسمَي «سيكسا» Sixa، و«سيلا» Seilla، وهما القراءة المعكوسة لكلمتي «أكسيس» Axis، و«آليز» Allies، وترجمتهما: “المحور”، و”الحلفاء”، على الترتيب).

وكما كان متوقعًا، جذبت القصة انتباه وكالة الاستخبارات المضادة الوطنية، التي اشتبهت في أنّ تسريبًا ما حدث من مشروع مانهاتن. وكانت أعداد كبيرة من الموظفين في موقع المشروع في لوس ألاموس بولاية نيو مكسيكو من عشاق قصص الخيال العلمي. وتم استجواب كامبل بشكل عنيف من قِبَل أحد عملاء المخابرات، كما تم وضع المراسلات الشخصية لكارتميل تحت المراقبة، وأوشكت مجلة «أستاوندنج» على فقد امتيازاتها البريدية. وبعد انتهاء الحرب، كثيرًا ما كان كامبل يستشهد بهذه القصة للإشارة إلى الطبيعة التنبؤية لهذا النوع من الأدب، أي قدرته على عكس صورة مقنعة لمستقبَل متخيَّل، وذلك باستخدام حقائق علمية معروفة.

في الواقع، أدّت التطورات التكنولوجية غير المسبوقة للحرب إلى إذكاء حب الجمهور للعلم والتكنولوجيا، وبالتالي رفع المكانة الثقافية للخيال العلمي. وكانت أواخر الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين فترة ازدهار لهذا النوع من الأدب. وعزز ذلك من أسهُم «أستاوندنج»، التي بدأت تتخصص في قصص الأزمة والصراع النوويين. كما أدى إلى ظهور مجلات منافِسة، مثل مجلة «جالاكسي» Galaxy، و«ذا ماجازين أوف فانتاسي آند ساينس فيكشن» The Magazine of Fantasy and Science Fiction، بالإضافة إلى توسيع سوق كتب الخيال العلمي بشكل عام. وبدأ آخرون محاولة استقطاب موهبة كامبل.ويتتبع نيفالا لي بحرص الانقسامات التي نشأت في المجموعة الأساسية، مدفوعة إلى حد كبير باهتمام كامبل المتزايد بأفكار علمية زائفة، مثل محرك دين (الذي أتى به المخترع نورمان دين، والذي ادعى أنه يمكنه أن ينتِج قوة دفْع من دون رد فعل، وهو ما يُعَد انتهاكًا لقوانين الحركة).

وبشكل أعمّ، لطالما كان كامبل دائم الهوس بإمكانية تطوير علم نفس مبنٍ على أسس علمية بحتة، ظنًا منه أنه ستكون له قوة تنبؤية على غرار علم التاريخ النفسي الخيالي في سلسلة «فاونديشن» Foundation، التي كتبها أسيموف. وعليه، عندما قام هوبارد في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين بنشر أفكار أصبحت فيما بعد “نظام المساعدة الذاتي” الخاص به، «ديانيتيكس» Dianetics، التقط كامبل الطُّعم. واستحوذت رؤية هوبارد للقوى الخارقة التي يُفترض أنها كامنة لدى الجميع – بمجرد أن يمروا بعملية “فحص”، ويخرجوا منها “أنقياء” – على عقل كامبل، فقام بمساعدة هوبارد على تسويق كتابه «ديانيتيكس» Dianetics في عام 1950.

ويدعي نيفالا لي أن الإيمان ببعث المخلّص في آخر الزمان، الكامن في لب الخيال العلمي – و”حلمه المستمر بمجتمع مغلق للعباقرة” – قد ساعد على دعم فكرة هوبارد، التي أصبحت فيما بعد تُعرف باسم العلمولوجيا (Scientology). وقد اعتنق عدد كبير من كتاب الخيال العلمي مذهب «ديانيتيكس»، إذ خضعوا للفحص، أو أصبحوا هم أنفسهم مراقبين مُحكنين. فقد ترك إيه. إي. فان فوجت وظيفته ككاتب لفترة قصيرة، من أجل إدارة فرع من المؤسسة في لوس أنجيليس بولاية كاليفورنيا.

كانت موهبة هوبارد في الترويج لتلك الأفكار الغريبة أساسية في نشر مذهبه، ويُعَد تصوير نيفالا لي له في الكتاب كشخص نرجسي مصاب بجنون الارتياب، ومتلاعب ماهر بعقول الآخرين، تصويرًا قاسيًا، بيد أن كامبل قد تعرض أيضًا لانتقاد لاذع؛ لدوره الداعم في ميلاد مذهب «ديانيتيكس»، وإطلاق العنان له.

وقد شعر هاينلاين، وأسيموف بنفور، بسبب ما اعتبراه احتضانًا للشعوذة غير قابل للانتقاد، ولجآ إلى تسويق كتاباتهما في مجالات أحدث، وعادة ما تكون مربحة أكثر. وتتناول الفصول الأخيرة من الكتاب بالتفصيل الهبوط المطرد للمجلة، حتى وصلت إلى مجلة من الدرجة الثانية، وتحوَّل كامبل (الذي توفي في عام 1971) إلى مخبول رجعي، له آراء عنصرية.

ورغم أن جزءًا كبيرًا من القصة المطروحة في الكتاب كان قد سبقت روايته مِن قَبل في كتابات تتناول تاريخ الأنواع الأدبية، وفي السير الذاتية، والمذكرات الخاصة بالأشخاص الرئيسين في القصة، فإن نيفالا لي قام بعمل ممتاز في تجميع الخيوط، وتضفيرها بأبحاث أرشيفية مكثفة، مثل المراسلات بين كامبل، وهاينلاين. فكانت النتيجة عملًا متعدد الأوجه، ومفصلًا بشكل رائع، إلا أن الكاتب كثيرًا ما انحرف عن مساره بالتفاته إلى بعض الأحداث التافهة (انظر حكاياته البشعة عن بواسير هاينلاين)، وكذلك انبهاره بقصص الحب السرية للشخصيات، وزيجاتهم الفاشلة.

وهو أيضًا يفرد لفان فوجت مساحة ضيقة جدًّا، لا تسمح له بالدفاع عن نفسه، وهو من أبرز اكتشافات كامبل، ومن أكثر الكُتّاب شعبية لدى عشاق المجلة، حينما كانت في أوج شهرتها، بينما لم تحظ كتاباته بالاهتمام الذي تستحقه.

وإذا وضعنا جانبًا تلك المآخذ البسيطة، فإن الكتاب يُعَد دراسة ثقافية وتاريخية غنية وشيقة، تكشف كيفية تحوُّل فريق صغير من الموهوبين في نوع أدبي تجاري وثانوي إلى بعضٍ من أكثر الشخصيات تأثيرًا في النصف الثاني من القرن العشرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

روب لاثام محرر مجلتي «ذا أكسفورد هاندبوك أوف ساينس فيكشن» The Oxford Handbook of Science Fiction، و«ساينس فيكشن كريتيسزم» Science Fiction Criticism. وعمل لاثام لمدة 20 عامًا في منصب كبير محرري الدورية العلمية «ساينس فيكشن ستاديز» Science Fiction Studies.

مجلة نيتشر / النسخة العربية

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى