البحث العلمي

تاريخ العلم: محاربة الفوضى

جوردي كات يسبر أغوار تاريخ “حلقة ڤيينا”، التي كانت تستخدم العِلْم في مواجهة الاضطرابات التي شهدتها ثلاثينيات القرن العشرين.

  • التفكير العقلاني في الأوقات غير العقلانية؛ حلقة فيينا، والرحلة الملحمية لإرساء أسس العِلْم

  • كارل سيجموند

يساور كارل سيجموند القلق. ويتجلى ذلك في كتاب “التفكير العقلاني في الأوقات غير العقلانية” Exact Thinking in Demented Time، حيث يتناول سيجموند – عالِم الرياضيات، ورائد نظرية الألعاب التطوّرية، الذي يعيش في ڤيينا – المخاطر المستمرة التي تهدد العقلانية في وقتنا الحاضر، بدءًا من الأصولية الدينية، وصولًا إلى “سيل مدمر من غثاء الثقافة” والضجر العام. ويخشى سيجموند أنْ يتجاهل الكثير من العلماء أثر هذه المخاطر على رؤيتهم للعالم وعملهم.


يقارن سيجموند بين عصرنا الحالي، والنمسا في الفترة ما بين الحربين العالميتين. فبين عامي 1918، و1938، مهَّد الاضطراب الاقتصادي والتوترات السياسية الاجتماعية الطريق للغزو الذي قام به أدولف هتلر، والحرب العالمية الثانية.


وفي ظل هذه الأجواء القاتمة، شكَّل عدد من العلماء ذوي الميول الفلسفية والفلاسفة ذوي التدريب العلمي “حلقة ڤيينا”. وصاغت هذه القوة المحركة الفكرية الرؤية العلمية للعالم، التي تُعرَف باسم “التجريبية المنطقية”؛ وهي تأكيد على تفوّق المعرفة العلمية، ورفض الميتافيزيقا. وبعد الحرب، سادت مناهج العلوم صورة أقل طموحًا من هذه الفلسفة.


كانت هذه المجموعة العامة، التي اتخذت من جامعة ڤيينا مقرًا غير ثابت لها، تتكوّن من كوكبة من الشخصيات اللامعة؛ فضمت عالِميْ الرياضيات هانز هان، وكارل مينجر، وطالِبهما كورت جودل، وعالِم الفيزياء فيليب فرانك، وعالِم الاقتصاد السياسي والاجتماع أوتو نوراث، والفلاسفة الذين حصلوا على تدريب في الفيزياء؛ إدجار زيلسيل، وجوستاف بيرجمان، وموريتس شليك، ورودولف كارناب، والفيلسوف فريدريك فايزمان (تجدر الإشارة بشكل خاص إلى الفيلسوفة روز راند، باعتبارها مسؤولة التسجيل في المجموعة).


يكشف سيجموند عن سعى أعضاء الحلقة إلى مواجهة الأيديولوجيات والدعاية العقائدية المتزمتة في عصرهم، حتى في مجال العلوم، من خلال صياغة معايير علمية، ونشرها عن طريق سلسلة من الكتب والدورية الفلسفية “إركينتنيس” Erkenntnis، والمؤتمرات، والمحاضرات.


وكان النموذج الذي تَصَوَّروه في البداية مبنيًا على مفاهيم وقواعد منهجية – لغوية، أو منطقية، أو رياضية – تشبه المحاولة التي قام بها عالِم الرياضيات ديفيد هيلبرت، لتوحيد مجاله، وإضفاء الطابع المنهجي عليه، استنادًا إلى البديهيات، غير أن أي نماذج من هذا القبيل كان لا بد من دعمها بأدلة تجريبية، واكتسابها معنى تجريبيًّا.


على سبيل المثال، لزم أن تكون النظريات التي تتناول المشاعر الإنسانية قابلة للاختزال إلى أوصاف سلوكية أو حالات فسيولوجية دقيقة وموضوعية وقابلة للملاحظة، ما يتصدى للأفكار التي كانت سائدة آنذاك في علم الأحياء وعلم النفس، مثل القوى الحيوية، أو الـ”أنا”.


وإلى جانب هيلبرت، كان من بين العلماء اللامعون الذين تركوا أثرًا على “حلقة ڤيينا” عالِمَي الفيزياء ألبرت آينشتاين، ولودفيج بولتزمان، والعالِمَين الفيلسوفين إرنست ماخ، وهنري بوانكاريه، وفيلسوف الرياضيات برتراند راسل. وجادلت الحلقة – على سبيل المثال – بأن أفكار آينشتاين حول الزمان-المكان أذنت، على ما يبدو، بزوال مفهوم الفيلسوف إيمانويل كانط عن الزمان والمكان كشكلين من أشكال الحدس.


وكان عالِم المنطق المنعزل ذو الشخصية الآسِرة لودفيغ فيتجنشتاين شخصًا مؤثرًا، يتمتع بتبجيل الآخرين له، وجذبه لهم. وقد درست المجموعة أفكاره بتمعن، مثل حدود الأفكار القابلة للتعبير عنها، ونظرت إلى كتابه “أطروحة منطقية فلسفية” Tractatus Logico-Philosophicus، الذي صدر في عام 1922 بوصفه معيارًا. ورفض فيتجنشتاين نفسه المشاركة في مناقشاتهم.


تخطى تأثير الحلقة نطاق التأثير الفكري. ففي نظر نيوراث – على وجه الخصوص – كانت الحركة ذات أهمية اجتماعية، فكان التفكير الدقيق في التعليم والحياة الفكرية العامة أداة لمكافحة العقائد اللاهوتية المتزمتة، والتحيّز الاجتماعي.


وقد دفعه اهتمامه بهذا المجال إلى قيادة خطط المدن الخاصة بإسكان العمال، وإلى إنشاء المتحف الاجتماعي والاقتصادي في ڤيينا، الذي سعى إلى إضفاء طابع ديمقراطي على التعلّم، وتعزيز تعليم الكبار، من خلال الكتابات المُصَورة pictographs المستندة إلى الإحصاءات؛ التي كانت مقدِّمة للرسوم المعلوماتية.


يصوّر سيجموند الحياة الفكرية والاجتماعية للمجموعة تصويرًا واضحًا، حيث صارت المقاهي العديدة في ڤيينا ساحات للمجادلات المستعرة، والمناقشات الحامية، والخطب الحماسية التي دارت في أثناء تناول القهوة، والكعك، والمشروبات الكحولية، وتدخين التبغ.


غير أنه، بحلول منتصف الثلاثينيات، تفرّقت الحلقة مع صعود المحافظين النمساويين الموالين للنازية في فترة حكم الرايخ الثالث (ألمانيا النازية). فاضطر معظم أفراد المجموعة إلى الهروب على نحو مأساوي إلى المنفى. أبحر كارناب – الذي كان يعمل آنذاك في براغ – إلى الولايات المتحدة، بينما هرب نيوراث – الذي كان يعمل في موسكو في أعمال لغة الصور – في نهاية المطاف إلى بريطانيا.


وانتقل آخرون إلى تركيا. وفي بريطانيا، حاز فيلسوف ڤيينا المنفِيّ كارل بوبر على شهرة لإيجاده حلولًا بديلة لمشكلات الحلقة الفكرية والاجتماعية.


إنّ علماء الرياضيات هم الأبطال المفضَّلون لسيجموند؛ فظهر الكثيرون منهم في أعماله السابقة، لكنّ هذا التركيز قد يصرف انتباه القرّاء عن القصة الكاملة لحلقة ڤيينا، وأهميتها. وتُحدِث مقدمة الكتاب – التي كتبها إخصائي عِلْم الإدراك دوجلاس هوفشتادتر، وبعض من إضافاته إلى النص الرئيس – تأثيرًا مماثلًا، من خلال التركيز على عمل جودل، وعالِم الرياضيات آلان تورنج؛ ولذا، يجدر بالقارئ التعامل مع المقدمة بوصفها خاتمة.


يسترشد الكتاب بعمل سيجموند في الميكانيكا الإحصائية، ونظرية الألعاب، ذلك العمل الذي يرد بالتفصيل في كتابه “حساب الأثرة” The Calculus of Selfishness (مطبعة جامعة برينستون، 2010)، مثل الفكرة التي ساقها بأن الفضائل العامة تكون نابعة – بشكل شبه حصري – من الرذائل الشخصية.


وبالتالي، فإن التأطير الأوسع نطاقًا هو تأطير نفسي. ففي عام 1935، صرّح راسل بأن “”ڤيينا” مصطلح نفسي، لا جغرافي”؛ فلا شك في أن المحلل النفسي سيجموند فرويد قد ترك بصمته على المدينة، إذ ينشر كتاب “التفكير العقلاني في الأوقات غير العقلانية” مصطلحات شبيهة بالمصطلحات الفرويدية.


فهو يصف العاصمة الواقعة تحت ضغوط بديناميكا الحب والموت، والجنون والحضارة، حيث يتناقض “التعصُّب الأعمى، والغباء الجنوني” لكثيرين تناقضًا صارخًا مع عقلانية “حلقة ڤيينا”، لكنّ البحث الفكري كان يبدأ أو ينتهى غالبًا في الظلام. وسلسلة الانهيار التي ذكرها سيجموند مُفجعة؛ إذ اكتأب بولتزمان، ثم انتحر، وقُتِل شليك على يدّ أحد طلابه السابقين، وطارد “الفزع من المرض العقلي” راسل، وأُصيب مينجر بجنون العظمة.


إنه لَتاريخ مثير، لكنه يدعو إلى الحذر. فقد ثَبُت أن المعايير العلمية الصارمة للمجموعة مستعصية من الناحية النظرية والعملية. وحدثت انقسامات داخلية في الحلقة بخصوص ذلك؛ فتعارَض تاريخ الحلقة وبحوثها اللاحقة مع القوة الوصفية والتوجيهية للفكرة المنظِّمة لها. ولم تنضج الوضعية المنطقية على نحو كافٍ يؤهلها لأنْ تصبح نموذجًا للتغيير والإصلاح في عصرنا الحالي الممزق.


ومن ثم، كيف ينبغي لنا أن نحل المشكلات التي تكتنف العلم والمجتمع والحكم حاليًّا؟ كيف يمكننا أن نواجه إنكار التغيّر المناخي، أو انتشار العلاجات الطبية المثيرة للجدل؟ أو في إطار العِلْم، كيف يمكننا أن نَحُول دون صور سوء استخدام “التفكير الدقيق”، و”النزعة العلمية”، بدءًا من أزمة التكرار في بعض المجالات، وصولًا إلى طرح خوارزميات تفرض التحيّز العنصري في العدالة الجنائية؟ وأخيرًا،


فإن كتاب “التفكير الدقيق في الأوقات العصيبة” لا يقدّم خطة للتغيير، وإنما يمثّل تذكيرًا بارزًا بالحاجة المستمرة إلى العقلانية الجماعية في أوقات الأزمات الأخلاقية والمنهجية.
جوردي كات فيلسوف ومؤرخ للعلوم في جامعة إنديانا بلومنجتون.


جوردي كات / عن مجلة نيتشــر – النسخة العربية


سلة كتب كارل سيجموند

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى