ترجمة

ميزان صَنْعَة الترجمة

لا يزالُ ذلك السجالُ القديم الحديثُ قائما، والمتمثِّلُ في الرجوع إلى التراث العربي كأساسٍ لتحقيقِ النهضة الفكرية والعِلمية، والحفاظ على الخصوصية العربية وعدم الدفع نحو التبعية للغرب.


ونقيضُه الذي يدعو إلى نسيان أوهام التراث والانفتاح على النظريات والمعارف والعلوم الغربية، لتدارك النقص والالتحاق بركب الثورة العلمية الإنسانية العالمية، بدل العيش في الماضي والحُلمِ به حُلمَ اليقظة، والتوجس من خيال الغرب.


أما الطرف الثالث فيسعى إلى التوفيق بين التوجُّهيْن والأخذ من هذا وذلك. والإسراع في حسم الخيار ومباشَرة لانخراط في مشروعٍ علميٍّ نهضويٍّ حقيقي؛ للخروج من هذا الواقع العلمي والمعرفي المُزري والمتدهور للغاية.


لا يُمنع أبداً أن تكون لنا مختبرات لتجريب النظريات الوافدة على إنتاجاتنا الأدبية وتراثنا العلمي والمعرفي، بل على العكس؛ إن هذا التجريبَ مفيدٌ جدا لتطوير آليات الدراسة والتحليل، بل ولتطوير وتطويع النظريات نفسِها، وإنتاج أنماط نظريةٍ جديدة، مُناسبةٍ وصالحةٍ وموافقةٍ للقالب العلمي والأدبي والفكري والثقافي العربي، وإغناء المكتبة العربية وتنويع إنتاجاتها في الحقول المعرفية كافة.


وهذا لا يتأتى إلا بوجود تُرْجُمانٍ مُدرَّبٍ وبارع (ونقصد هنا بالترجمان المؤسسات والمختبرات والهيئات المتخصصة في حقل الترجمة بكل ما تحتاجُه من طاقات مؤهلة وإمكانيات لغوية ومنهجية وتقنية وفنية) لِنَقْلِ هذه النظريات وهذه المباحث العلمية الجديدة الغربية (لغة الانطلاق) إلى لغتِنا العربية (لغة الوصول)، تماما مثلما فعلتْ الدولة العباسية زمنَ المأمون الذي أطلق ثورة علمية وأدبية وثقافية حقيقية وشاملة انفتحت على خرسان واليونان والهند، فانتشرت الترجمة انتشارا واسعا وأُجْزِلَتِ العطايا على المؤلَّفات والكُتب المترجَمة بِوَزنِها ذهباً.


  • فماهي آليات وضوابط صَنْعةِ الترجمة؟
  • وما هي المعايير العلمية المعتمدة في صَنْعَةِ الترجمة ؟

الترجمات أنواع عديدة ومختلفة، منها الترجمات الصوتية الفورية ألتي تكون عادة في المؤتمرات والندوات، وهناك الترجمات الحاسوبية، التي تُوَّظِّفُ برامِجَ إلكترونية خاصة لترجمة البيانات والمعادلات الرياضية والأرقام في البورصة والأبناك، وتُحَوِّلُها إلى رسومات مِبيانية وتقاريرَ ماليةٍ واقتصادية، وهناك ترجمات للأفلام والبرامج الوثائقية، بالإضافة إلى ترجمة الشيفرات والرموز في القطاعات الأمنية والعسكرية … وغيرِها من أنواع الترجمات.


وكل هذه الترجمات تقوم على ركيزة المعنى والعمل على تقريبِه قدر المستطاع. والذي يهمنا في موضوع الترجمة هنا، هو الترجمة العلمية للكتب والمقالات والدوريات والأوراق البحثية، ونحن في هذا المقال، غير معنيين بالأمور القانونية والتقنية الخاصة بالمترجِم والمترجَم له، والتي تتعلَّق بالعقد الموقع والشروط المُضَمَّنة فيه.


إن ما يهمنا في هذا المقال، هو بسط القولِ في شروط وضوابط الترجمة العلمية والمعرفية الجيدة، أي التي تَنْقُل مَتْنًا مِن اللغة (أ) (اللغة الأصل/ لغة الانطلاق) إلى اللغة (ب) (اللغة الهدف/ لغة الوصول)، دون أن يَختَلَّ المعنى (الأدب) أو المَعارف (العلوم الإنسانية / النظريات) أو المعلومة (العلوم التجريبية / الحقائق العلمية ).


يفترض المترجم أو الممارسُ لعملية الترجمةِ قُـرَّاءً مِثاليين افتراضيين وهو يُترجم، لأنه لا يُترجِم لنِفسِه بل للمتلقي الذي سيقرأ هذه الترجمة، ويَحكُم عليها إما بالجودة أو الرداءة، وعلى المترجم أن يَعلمَ أنه يتواصلُ عن طريق اللغة (المكتوبة / الرسمية) وبالتالي؛ ما يَتخيَّلُهُ ويَستحضرُهُ في ذهنِه وهو يُترجم، يجب أن تَدل عليه اللغة (التي يُترجم إليها / اللغة الهدف) دلالةً واضحة، فقد يتوهم المترجِم أحيانا أنه يُبَسِّط ويُوَّضِّح في حين أنه يَزيد من تعقيد المعنى وإشكالِ المتن.


والسبب في ذلك يعود إلى اختلاف ما يَعتقد المترجِم وما يُفكر فيه، مع ما يَكْتُبُه، وهنا تَبْرُزُ مسألة التخصص، فلا يَحِقُّ للمترجِم أن يتجرأ على ترجمة كتابٍ لا ينتمي إلى تخصصِه العلمي، فالترجمة تحتاج إلى ماهر باللغة، وليس إلى مُكتسبٍ لها فقط، وهذا الخلط والتناقض نتيجةٌ طبيعيةٌ للمُتَجرِّئين على الترجمة، الفقراءِ مِن حيث اللغة (سواء لغة المصدر أو لغة الهدف).


عندما تتم ترجمة نص ما، فإننا بالضرورة أمام نصيْن مُختلفيْنِ تماما من حيث اللغة ومن حيث الأسلوب، وكذلك من حيث طريقة التقديم (المعنى / المعلومة / المعرفة)، يقول أبو عثمان الحاجظ في هذا الباب: “ولا بُد للترجمان من أن يكون بيانُه في نفس الترجمة، في وزن علمِه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها،

حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانيْن، عَلِمْنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كلَّ واحدة من اللغتيْن تجذب الأخرى وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تَمَكُّنُ اللسان منهُما مجتمعيْن فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة، وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتيْن، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات.


وكلما كان الباب من العِلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه. ولن تجد البتة مُترجِما يفي بواحدٍ من هؤلاء العلماء” ، وهذا يُعلِّلُ على استحالة أو صعوبة تمثُّل والإحساس بروح النص وأسلوبه، لأن اللسان تتنازعُهُ لغتان، (رغم صعوبة طبع الأسلوب والتجرُّدِ له، إلا أنه يتوجب على المترجِم أن يَحيى داخل النص ويتمثَّلَهُ ما أمكَنَه ذلك، قبل مباشرة عملية الترجمة حتى لا يُنتِجَ نصا بلا روح) فلِكلٍّ أسلوبُهُ ومنهجيَّتُه في الكتابة.


وهذا أمر طبيعي للغاية، الأمر غير الطبيعي ،هو أن نكون أمام نصَّيْنِ (الأصلي/ والمترجَم) متناقضين أو متنافرين، وهذا مَرَدُّهُ عادة إما إلى الفهم السقيم لنص الانطلاق مِن قِبَل المترجِم، أو عدمِ الفهمِ أصلا للمتن المرادِ ترجمتًه (عدمُ الإلمام بلغة الكتاب/ ومجالِ تَخصُّصِه) فكما قلنا، لا يكفي أن يكون المترجِم عارفا باللغة، ولكن يُشترط فيه أن يكون ماهرا بها أيضا، ونقصِد بالمهارة هنا (معرفة أنماط اللغة الواحدة من حيث مجالات توظيفها كـ الفلسفة / الأدب / السيميائيات ..) فاللغة الأدبية مثلا ليست هي اللغة القانونية أو السياسية أو الإعلاميــة .. إذ لكل حقل لغتُه الخاصة.


لقد وُجدتِ اللغة لتحقيقِ التواصل (في حالته العادية البديهية) ولِغرَضِ التَّوْصِيل كذلك، وبالتالي يتعين على المُترجِم أن يكون مُلِمًّا وواعيا بقيمة هذا المُرادُ ترجمَتُه (كتاب/متن) من لغة الأم (لغة المصدر) وبِموقعِه المُحدد في خانة الأنساق اللغوية.

فقد ينجح المترجم إلى حدٍّ بعيدٍ (إذ لا توجد ترجمة كاملة ومثالية، وإنما هناك ترجمة جيدة فقط) في نقل المعنى خلال عملية الترجمة، ولكنه قد يقع في مشكل تقني يتمثل في إنتاج نص هش وضعيف البنية، مسبِّبا نوعا من عدم التماسك والانسجام بين محاورِه وفقراته، مما يؤدي إلى ضياع المعنى.


وهنا تَبرُز الحاجة المُلحة إلى العناية بالغة التحرير الواصفة، فالصياغة هي من يُجوِّد العمل المترجَم، والعملُ الذي تبدو عليه علامات الضعف اللغوي والتركيبي، يفقد كثيرا من رونقِهِ وجماليتِه وفوائده المعرفية وقيمته العلمية.


كما يظهر ضُعف الترجمة في عبثية توظيف علامات الترقيم، حيث تعمل علامات الترقيم الموضوعة بشكل عشوائي، على إعطاءِ مفعولٍ عكسي، يؤدي إلى التباسِ القراءة وقتل المعنى والاجهاز عليه. لذاك وجبَ الانتباه إلى علامات الترقيم ومواقعِ استعمالِها لتجنب مفعولِها السلبي على الترجمة.


كما يجب الأخذ بعين الاعتبار قابلية النص للترجمة، أي أن يكونَ المترجِمُ قادِراً على إتمام ترجمة النص، وهذا الأمر يُكتشَف في القراءات المتعددة التي يقوم بها المترجِم قَبْلَ خوض غمار الترجمة، وهي محاولة لاكتشاف النص من زواياه المختلِفة، فمثلا، بعض النصوص لا يمكن أن يضطلع بترجمتها شخصٌ واحد، بل تحتاج إلى مختبر متخصص في الترجمة.


هذه المختبرات المتخصِّصة تلتجئ إلى مبدأ المواءمة، وهي عملية صعبة ومعقّدة تستدعي الأخذ بعين الاعتبار المكونات اللغوية والثقافية والإلمام بالحالة والظروف العامة التي أنتجتْ المتن المرادُ ترجمتُه، وذلك لنقل روح المتن، بدل الاكتفاءِ بنقل المعنى لِوحده، “إن عملية الترجمة تقوم على ركيزة أساسية وهي المواءمة بين المكونات اللغوية والثقافية في لغتيْ المصدر والهدف،

وفي سبيل تحقيق تلك المواءمة قد يضطر المترجم إلى التضحية بأحد مكونات النص، أو قد تدفعه إلى التصرف في النص الأصلي بما يضمن إحداث نفس التأثير الذي سعى صاحب النص الأصلي لإحداثه لدى المتلقي” .


هناك ثلاثة أنماطٍ شائعة من الترجمة وهي:

 الترجمة الحرفية / Literal translation la traduction littérale: تحافظ على الهيكل العام للنص (الأسلــوب / المعنى) وتقوم فقط بتعويض المفردات والمصطلحات بأخرى من اللغة الهدف عن طريق القواميس والمعاجم (معاجم متخصصة إذا كان المتن ينتمي إلى حقل معرفي أو علمي معين) .


 الترجمة التفسيرية Explanatory translator/ Traduction explicative: وتستهدف ترجمة المعنى والبسطِ في شرحه وإظهاره، مع هامش كبير في تعويض الألفاظ دون مراعاة للهيكل العام للنص.


 الترجمة الحرة أو ترجمة المُحاكاة أو ترجمة القراءة traduction libre/ Free translation : وهي ترجمة لا تُقيم وزنا لا للهيكل ولا للمعنى، ولا يعنيها التثبت من الألفاظ، إنها تعبر عن قراءة خاصة لمتن الانطلاق. وهذا النوع لا يصح أن يقال عنه ترجمة.


• خلاصة

لكي يكون ممارِسُ الترجمةِ مترجِما جيدا، لا بد له بالضرورة أن يكون قارئا جيدا، إذ يجب على المترجم أن يَبدل جُهدا كبيرا وجبَّارا في البحث عن المفردات وتعقُّبِ المصطلحات العلمية في المعاجم العامة والمتخصصة، وأن يحترم الترتيب المتبع في ترجمة المصطلحات، إما عن طريق المرادفات أي الترجمة، أو عن طريق التَّعرِيب أو الاشتقاق أو النَّحت أو التوليد أو الاقتراض .

كما يشترط فيه حبُّ الترجمة والاستمتاع بها، حتى لا يكون إنتاجُه نَصًّا جافا خاليا من أية روح أو حياة، هذا إذا أراد المترجِمُ امتلاك صَنْعَة وناصيَّة الترجمة .


فالترجمة صنعة (بمفهومها الفني والإبداعي) لها رِجَالُها وحِرفيُّوها، والبعض دخيلٌ عليها، فهو يتصَنَّعُ الترجمة ويتخذُها عملا تكسُّبيا يهدف من ورائه إلى الربح وحسْب، وليس صانِعا من صُنَّاعِها الحاذقين المَهَرَة، لذلك تَجِدُ القُرَّاءَ المتخصصين يسألون عن اسم المترجِم قبل اسم الكتاب المترجَم.


  • وإليكم بعض الروابط المهمة ذات الصِّلة بالموضوع:

رابط المنظمة العربية للترجمة

 تجدون في الرابط أسفَلَه: الدليل التقني الأكاديمي المعتمد في الترجمات.

الرابط

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى