الدراسات الأدبية

ما قبل القصيدة الجاهلية: دراسة في الشعر العربي القديم (1)

تبدأ قصة الأدب العربي عادة مع الشعر الجاهلي الذي حفظته الذاكرة الشفاهية ليُدوَّن في القرن الثاني للهجرة ويشكل، بالإضافة إلى القرآن، مصدر النهضة اللغوية والأدبية على يد أئمة النحو والبلاغة والعروض.

لكن القصة أقدم بكثير كما سنبين في هذه الدراسة المكونة من جزأين، والتي تسلط الضوء على ثلاثة نصوص شعرية منقوشة على الصخور، تعود إلى القرون الميلادية الأولى. على الرغم من قصر هذه النصوص (ثلاثية الأبيات)، إلا أنها تتمتع بأهمية خاصة لدى دارسي الأدب العربي ومراحل تطوره، إذ تسمح بإعادة النظر في بنية القصيدة العمودية بوصفها “النموذج الأصل”.

تنتمي النصوص إلى ما يعرف بـ “العربية القديمة”، وهو مصطلح عام يستخدمه المختصون للدلالة على مجموعة ضخمة من النقوش المنتشرة في بوادي الشام والجزيرة العربية. لغويا، هذه النقوش عربية، لكنها مدونة بخطوط مختلفة: الخط الصفائي والحسمائي (النسبة الأكبر)، الخط الداداني، الخط النبطي، الخط النبطي-العربي، الخط العربي القديم، والخط اليوناني (مخطوطات)، الذي ينفرد عن الخطوط السابقة في قدرته على التعبير عن الصوائت ومخارج الحروف بشكل تام.

عند التعامل مع العربية القديمة، سيكون من الخطأ محاولة إخضاعها لمنطق ما اصطلح على تسميتها بـ “الفصحى” كمرجعية لغوية قياسية، كما لا يجوز عدها لهجات متفرعة عنها، فبعض خصائصها الصرفية والصوتية تبدو أقرب إلى “العربية الأم المفترضة” (Proto-Arabic)، التي هي أقرب إلى “السامية الأم”. على سبيل المثال، كلمة “سماء” في الفصحى تقابلها “سماي” في النقوش الصفائية (لا يوجد لغة صفائية، والمصطلح يستخدم للدلالة على الخط فقط)، وهي الصيغة الأقدم بالنظر إلى الأصل السامي “شَماي”، وهكذا يكون انقلاب الياء همزة في الفصحى ظاهرة متأخرة تاريخيا وليست أصيلة. أضف أن نصوص العربية القديمة تتضمن أدوات أخرى للتعريف غير “ال”، هي: هَنْ (هنبيت)، حرف الهاء (هبيت)، والهمزة (أبيت)، وجميعها تعني “البيت”، وأحيانا تغيب أداة التعريف تماما (أي حالة الصفر)، ولعل هذا هو الأصل في السامية الأم كما تبين اللغات الأقدم، كالأكادية والأوغاريتية. في المقابل، احتفظت الفصحى بمظاهر أصيلة تغيب عن العربيات القديمة، أهمها التنوين، والذي يوازيه التمويم في الأكادية واللغات اليمنية القديمة (بيتُم = بيتٌ في العربية). لا أرمي من هذه المقدمة الموجزة إلى التقليل من أهمية مصنفات التراث، بل إلى التشديد على أن التنوع اللغوي التاريخي للعربية أغنى مما نتصور ويتخلله فجوات مبهمة حول المراحل الأبكر، وبالتالي لا يُشترط أن تكون مقاييس النحاة العرب لـ “الفصاحة” (على الرغم من أهميتها) أساسا لإعادة استبناء اللغة الأم في اللسانيات الحديثة.

  • 1- النص الأول: نقش عين عبدة

اكتشف في موقع عين عبدة في صحراء النقب سنة 1979، وهو مدون بالخط النبطي، ويتألف من ستة أسطر، أربعة منها باللغة الآرامية (1، 2 ،3، 6)، هي كتابة تذكارية بواسطة شخص يدعى “جرم إلهي”، تتضمن دعاء وتقدمة لـ “عبيدة” (الحاكم النبطي الذي أُلِّه بعد وفاته) وسطران شعريان بالعربية (4-5). ويُرجّح أن النقش يعود إلى القرن الأول أو الثاني ميلادي.

لقي النص الشعري اهتماما واسعا بين المختصين، فصدرت حوله أكثر من عشر دراسات حتى الآن، مع قراءات وترجمات مختلفة، من بينها واحدة بالعربية للباحث العراقي سعد الدين أبو الحُب.

قبل مناقشة النص، أود أن ألفت انتباه القارئ إلى أن الكتابة النبطية متصلة لا يتخللها فراغات أو فواصل بين الكلمات، لذا يعود تقدير القراءة وتوزع الكلمات على السطر إلى الباحث. أضف أن العلامة الكتابية ذاتها تستخدم للتعبير عن حرفين من مخرج متقارب، كالتاء والثاء، والعين والغين، والدال والذال (وأحيانا الراء)، لذا سأضع خطا تحت الأحرف التي يمكن أن تقرأ بطريقتين مختلفتين.

  • النص

ف ي ف ع ل/ ل ا/ ف د ا/ و ل ا/ ا ت را/ ف ك ن/ ه ن ا/ ي ب ع ن ا/ ا ل م و ت/ و ل ا

ا ب ع ه/ ف ك ن/ ه ن ا/ ا د د/ ج ر ح/ و ل ا/ ي د د ن ا

  • القراءة والتفسير

تباينت الآراء حول قراءة النص وتفسيره، وسأكتفي بذكر أربع دراسات تلخص جميع وجهات النظر السابقة، والتي يقوم التباين الجوهري بينها حول مسائل ثلاث: (1) المقصود في النص (الإله أم الإنسان بشكل عام)، (2) قراءة الفعلين في السطر الثاني (بالدال أم بالذال أم بالراء)، (3) التقطيع الشعري (ثنائي أم ثلاثي الأبيات).

1- قدم نيجيف (Negev)، الناشر الأول للنص، قراءة شبه حرفية:

فيفعلُ لا فِدى ولا أثَراً فَكُن هنا يبغِنا الموتُ لا

أبغيه فَكُن هنا أرادَ جَرْحُ لا يُرِدْنا

والتفسير:

فيفعل (المرء) لا طلبا للثواب أو الجميل. وإن ابتغانا الموت

فلست بمبتغيه. وإن أرادتنا بلوى، فليس لها ما تريد.

وقد قرأ الواو بعد كلمتي “الموت” و”جرح” بوصفها علامة الإعراب (الرفع): الموتو، جرحو، ذلك أنها شائعة في المفردات وأسماء العلم العربية الواردة في النصوص النبطية.

2- بيلّامي (Bellamy 1990):

فيفعلُ لا فِدى ولا أثراً فكان هنا يبغينا الموتُ لا

أبغاه فكان هنا أداد جَرْحٌ لا يُردينا

والتفسير:

لأنه (الإله عبيده) لا يفعل طلبا للثواب أو الجميل. وهو، حينما ابتغانا الموت، لم

يحقق له مبتغاه، فحين تقرّح جرح (لنا)، لم يدعه يفنينا.

وإذ يتفق مع نيجيف على أن الواو هي علامة الإعراب، فقد اختلف معه حول الفعل في السطر الثاني، فقرأه بالدال “أداد” في ضوء التعبير العربي المهجور ”أداد الطعامُ” أي أخرج الدود. وهو اقتراح مقبول في ضوء التعبير الشائع في اللهجات المحكية “دوّد الجرح”، بمعنى “تقرّح”.

3- اقترح سعد الدين أبو الحُب (2013) تفسيرين متشابهين، مخضعا النص لبنية القصيدة العمودية:

فَيَفعلُ لا فِدا ولا أثَرا فكان هنا يبغِنا

الموتُ لا أبغه من هنا أذَذُ/أذُّ جُرْحٌ لا يردنا

أو

فَيَفعلُ لا فِدا ولا أثَرا فكان هنا يبغِنا

الموتُ لا أبغه من هنا إذْ ذا جُرْحٌ لا يردنا

وتفسيره للمعنى: الموت فعل حتمي لا يمكن منعه باستئثار أو فدية، فهو يبتغينا ويبلغنا جميعا. وقد اقترح “أذذ”، وهو جذر يدل على الألم والأذية، لكن القراءة تنطوي على خطأ لغوي واضح، فعبارة “أذذ/أذُّ جُرْحٌ” تفترض حالة الإضافة، وتنوين الضم لا يصح هنا (مستحيل لغويا). أما القراءة “إذْ ذا” في التفسير الثاني، فمستبعدة من منظور تقاليد الكتابة الآرامية النبطية، فالألف المفترضة في “ذا” غير موجودة في النص الأصلي (أدد، أرد)، فإذا كانت الألف واضحة في بقية الكلمات “هنا، يبغنا، يردنا/يددنا”، فلم أسقطها الكاتب من هذه الكلمة فقط؟

4- قدم كروبّ (Kropp 2017) مؤخرا دراسة مفصلة يتخللها مراجعة لجميع الدراسات السابقة:

فيفعل لا فِدى ولا أُثرى (أثَرا)

فَكُن هنا يبغِنا الموت ولا أبغاه

فَكُن هنا أداد جُرْح ولا يددنا

والتفسير:

عسى ألا يسبب (الإله) ضحايا أو آثارا (ندوبا، جروحا)

وليكن أن الموت يبتغينا، فلن يسمح له (الإله) بذلك

وليكن أن الدود يلتهم الجرح، فلن يسمح له بالتهامنا.

وتقديره أن السطر الأول يتضمن تأخيرا، وأن الأصل فيه: “فلا يفعل فدى ولا أُثرى”، أي صيغة التمني. كما أنه فهم التركيب “كن هنا” كأداة شرطية.

أرى شخصيا أنه ينبغي التركيز على مسألة الشفاهة والتلاوة عند التعامل مع نص بهذا القدم، إذ لا يشترط أن الكاتب “جرم إلهي” هو المؤلف نفسه. بمعنى آخر، النص من التراث، لكن الكاتب دوّنه تحت تأثير ظرف خاص، قد يتناسب ومضمونه الشعري. ولا شك في أن تلاوته كانت تشترط قواعد محددة، كمراعاة الوَقْف والنبر والتشديد وصيغ السؤال والتعجب، وهي أمور يستحيل التعبير عنها كتابيا (وفق تقاليد ذلك العصر). أفترض أن النص من شعر الحماسة، وأقترح القراءة الآتية:

فيفعل لا فَدى ولا أَثْرَى

فَكُن هنا يبغِنا الموت ولا أبغاه

فَكُن هنا أداد جُرْح ولا يددنا

والتفسير:

يفعل (المرء ما بوسعه)، لكن هيهات! فلا هو فدى نفسه ولا حقق ثراءً

فكن هنا (في الوغى). فإن ابتغانا الموت، فلا منحه الله مبتغاه

فكن هنا (في الوغى). فإن تقرّح الجرح، فلا أسلمنا الله للقروح.

وأرجّحُ أن الواو في “ولا” أداة تأكيد وليست عطفية (بموجب الرأي السابق لـ كروبّ). والمقصود هو أن ساحة الحرب هي المكان المناسب للرجل الشجاع، لا حياة الدعة، حيث افتداء النفس وطلب الثراء (بالمال أو الصيت). وإنه إذ يقرر المضي إلى المعركة، فعليه ألا يفكر في النتائج (الموت أو الإصابة) بل يترك الأمر لله، يختار له ما يشاء.

ولربما تضمن النص صيغة السؤال في البيتين الثاني والثالث:

يبغنا الموت؟ ولا أبغاه

أداد جرح؟ ولا يددنا

أي أن الشاعر قد رمى إلى إشراك المستمع، ولا سيما المتردد حول الانخراط في الحرب، بأن استبق ما يدور في ذهنه من أسئلة حول احتمالات الموت والإصابة: (تتساءل أيها المستمع) قد يبغينا الموت؟ لا أبغاه الله (تتساءل) قد يُدادُ الجرحُ؟ لا أدادنا الله…

ملاحظات حول الشعرية والإيقاع

حاول بيلّامي (Bellamy) مقاربة النص من زاوية العروض الفراهيدي، فاقترح البحر الطويل. وسار سعيد أبو الحب على خطاه، فاستشار ثلاثة من الشعراء العراقيين المعروفين: سعدي يوسف (اقترح البحر البسيط)، صلاح عواد (أقرب إلى بحر الرجز)، وعبد الرزاق عبد الواحد (غير موزون).

ولعل الرأي الأخير أقرب إلى الصواب، إذ لا طائل من محاولة إخضاع النص إلى منطق العروض التقليدي، فالقصيدة العمودية تنتمي إلى أصل مختلف تماما كما سأبين لاحقا في الفقرة الأخيرة من الجزء الثاني لهذه الدراسة. واضطراب إيقاع نصنا (وفق مصطلحات الفهم التقليدي) يسمح بمقاربته من زاوية مختلفة، أقصد مبدأ التناظر والتكرار:

لا فدى/لا أثرى كن هنا/كن هنا يبغنا الموت/أداد جرح لا أبغاه/لا يددنا

إن كان المقطع ثلاثي الأبيات حقا، وهذا مرجح في ضوء النصين الشعريين أدناه، فلربما هو جزء من قصيدة كاملة ثلاثية المقاطع، تخللها الروي /نا/ الواضح في البيتين الثاني والثالث (هنا، يُدِدْنا أو يُرْدِنا).

  • 2- النص الثاني: مقطع من “دورة بعل”

اكتشف النقش في شمال الأردن سنة 1989، وهو مدون بالخط الصفائي-الحسمائي. نشرته كينغ (King 1990) في أطروحتها للدكتوراه من دون أن تتمكن من فك طلاسمه، فافترضت أنه تذكاري يتضمن أسماء أشخاص. أعاد أحمد الجلاد النظر فيه مؤخرا، وقدم قراءة جديدة تكشف طابعه الشعري (Al-Jallad 2015). يستحيل تقديم تأريخ دقيق للنقش، لكن يجمع الباحثون على أن النقوش المدونة بهذا الخط تعود إلى القرون الميلادية الأولى (بين الأول والرابع) أو ربما أقدم بكثير.

النص ثلاثي الأبيات كسابقه، ويعكس أصداء من ملحمة بعل الأوغارتية (تعرف بـ “دورة بعل”)، وهي عمل أدبي طويل ذائع الصيت، تصف أحداثه صراع هذا الإله الشاب (إله الطقس والخصوبة) مع عدويه اللدودين: موت، إله الفناء كما يستشف من الاسم، و يَمْ، إله البحر. يُهزم بعل ويموت، لكنه يعود وينتصر بمساعدة الإلهة عناة، الموصوفة بـ “أخته”، فيُدشَّن له معبد على جبل صَفّون (الجبل الأقرع في سورية). مجازيا، يرمز الصراع إلى جدلية الخصب والعطالة/العدم كمبدأ ناظم للكون.

النص

ل ح ج/ م ت/ و ل ظ/ ث ر م

ف م ي ك ن/ خ ل ف/ ل ي ل ي ه/ و ء و م ه

و ه/ ء ب ع ل/ ي ب ت/ و ل ه/ ب ت/ و م/ ن م

القراءة والتفسير (حسب الناشر، الجلاد)

لَحَجّ موت واللاظّ ثَرام

فمُيَكان خَلْف ليالِيُه وأوّامُه

وها أبّعْل يُبَتّْ ولَهُو باتّ وما نام

والمعنى:

أولم (الإله) موت مأدبة احتفالية، يأكل الصعب

ثابتٌ تعاقب لياليه وأيامه

هو ذا بعل يُبَتُّ (يُقطَّع أربا). إنه لمبتوت (حقّا)، لكنه ليس بنائم (مجازيا ميت).

ملاحظات حول المفردات

– ل ح ج (لَحَجّ): اللام افتتاحية لا معنى لها، وهي شائعة في النقوش الصفائية، وتشبه لام الابتداء (المزحلقة)، أما الفعل حَجّ، فيرجح أنه دخيل من الأوغاريتية، بمعنى “أولم مأدبة احتفالية”.

– ل ظ (لاظّ): اسم فاعل بمعنى “الرجل العسر، المتشدد” من الجذر “ل-ظ-ظ” (لسان العرب).

– ث ر م (ثَرام): ربما تكون صيغة المصدر من الفعل الأوغاريتي “ثرم”، بمعنى “أكل”.

– م ي ك ن (مُيَكان): يُرجَّح أنها صيغة اسم المفعول من الجذر “ك-و-ن” في وزن “أفعل”، وأصله “مُؤَكان”، بمعنى “كائن، ثابت”، والصيغة غير مثبتة في المعاجم العربية (غياب الشاهد لا يعني عدم صحة التفسير).

– خ ل ف/ ل ي ل ه/ و أ و م ه (خَلْف/خِلاف ليالِيَه وأوّامه): المقصود تعاقب الليل والنهار، وثمة موازيان لهذه العبارة في القرآن: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ” و”هو الذي جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً”. وبما أن النقوش الصفائية لا تعبر عن أحرف المد، فإن كتابة الياء الثانية في “ل ي ل ي ه” دليل على أنها كانت تُلفظ حرفَ علّة “ليالِيُه”، خلافا لـياء المد في “لياليِْه” الفصيحة. أما كلمة “أوّامه” فأصلها “أيْوامه”، وهي صيغة الجمع المهجورة لكلمة يوم، والجمع المتعارف عليه “أيّام” (مماثلة الياء والواو) أحدث نسبيا.

– أ ب ع ل (أبّعل): الهمزة هي أداة التعريف (مثبتة في نصوص صفائية أخرى) و بعل هو اسم الإله المعروف.

– ي ب ت (يُبَتّ): فعل مضارع مبني للمجهول من الجذر “ب-ت-ت”.

– ل ه و (لَهُو): لام التوكيد + الضمير هو.

– ن م (نام): قد يُفسَّر هذا الفعل مجازيا بمعنى “مات، غاب”.

والآن، أعرض تفسيري الشخصي الذي يختلف قليلا عما قدمه الجلاد:

ضرب موت (خصمه بعلاً) وواظب تَحْطيما

ما يكن تعاقب لياليه وأيّامه

وها بعل يبَتُّ (يقطع إربا) ولكن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم.

أو

وها بعل يبيت ولكن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم.

فيكون المعنى: أيا كان تعاقب أيام الإله موت ولياليه، فيُظَنّ أن بعل يبيت (مجازيا، ينسحب من المعركة)، لكن محال، فلا تأخذه سنة ولا نوم، أي أنه سيعود إلى القتال وينتصر.

وفيما يلي تفسيري الجديد للمفردات:

– ل ح ج (لََحَج): أقرؤها كلمة واحدة، فمن معاني الجذر “ل-ح-ج” الضرب بالعصا (لسان العرب)، وهو يتناسب مع سياق الصراع بين الإلهين.

– ل ظ: أرجّح أنها صيغة الفعل “لظَّ” لا اسم فاعل كما اقترح الجلاد، فبموجب لسان العرب “المُلاظّة في الحرب لزوم القتال” (المقصود وزن التعدية ألظّ بـ). وبالتالي يكون لدينا تناظر بين الفعلين في السطر: لَحَج/لَظّ.

– ث ر م: يمكن عدها مصدرا “ثَرْم” أو “ثرام”، فالمعاجم العربية تجمع على أن المعنى الأولي للجذر “ث-رم-” هو “كَسْر السِن” (لسان العرب)، وبموجبه لا يُستبعد وجود دلالة عامة تفيد التكسير والتحطيم.

– ب ت: قد تكون صفةً “بِتٌّ”، أي مُقَطّع من الجذر “ب-ت-ت” (على غرار حِلٌّ في القرآن “وأنت حِلٌّ في هذا البلد” من الجذر “ح-ل-ل”) أو فعلا “بات” من الجذر “ب-ي-ت”، وهذا يقربنا دلاليا من العبارة القرآنية “لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم”.

الشعرية والإيقاع

المقطوعة ثلاثية الأبيات على غرار النص السابق (عين عبدة)، لكن يصعب إخضاعها لموازين الشعر العربي، فالإيقاع مختلف تماما. ويبدو أن كل سطر يتضمن أربع وحدات غير مضبوطة، مع تكرار الروي /آم/ في البيتين الأول والثالث:

1

2

3

4

لَحَج

فما يكن

فها أبّعل

موت

خلف

يبيت

لَظّ

ليالِيُه

ولاهو بات

ثرام

وأوّامُه

وما نام

  • الخلفية الميثولوجية

كما أسلفت الذكر، تدور أحداث “دورة بعل” الأوغاريتية حول الصراع المرير الذي يخوضه هذا الإله مع عدويه اللدودين يم وموت، وهما رمزان للعدم والعطالة. يُهزم بعل، ويُقطع إربا، ويموت، لكنه يعود مجددا وينتصر بمساعدة الإلهة عناة. يعكس نصنا جانبا واحدا من هذا الصراع (مع موت)، ولا يُستبعد وجود مقاطع أخرى.

وبموجب بعض النصوص الصفائية، فقد انتشرت عبادة بعل بين العرب القدماء في بلاد الشام، حيث عُرف بـ “بعل سمين”، أي بعل السماوات، و”سمين” هي صيغة الجمع الكنعانية، ولا علاقة لها بالصفة المشتقة من السمنة. وفيما يلي عينات من الأدعية لهذا الإله:

– ف ه/ ب ع ل س م ن/ ر و ح/ و س ل م “فيا بعل السماوات، أرسل رياح (المطر) وسَلِّم (= احفظ الحياة)”. وكلمة “ر و ح” هنا هي فعل الأمر في وزن المضعف “رَوّحْ”، أي أرسل الرياح (دلاليا، صيغة التمني).

– ف أ ب ع ل س م ن/ ر و ح/ ب م ط ر ت “فيا بعل السماوات أرسل رياحا تحمل المطر”.

لقد اقترن القحط بموت بعل، ما سبب حزنا لدى الناس كما يوضح النص الآتي:

– و و ج م/ ع ل/ ب ع ل س م ن/ س ن ت/ م ح ل “ووَجَم/حَزِن على بعل السماوات سنة المحل”.

وهذا الحزن شائع في النصوص الأوغاريتية والرافدية (الحزن على تموز إله الخصب)، وقد استدعى طقوسا تذكرنا بـصلاة الاستسقاء في التقاليد الإسلامية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • قائمة المراجع

بخصوص تصنيف “العربية القديمة” وسماتها اللغوية (مقدمة البحث)، أنا مدين لأحمد الجلاد الذي أفادني بمعلومات مهمة حول الموضوع خلال مقابلة أجريتها معه (سأعمل على نشرها لاحقا). حول مزيد من التفاصيل، انظر:

Al-Jallad, A. (2015). An Outline of the Grammar of the Safaitic Inscriptions. Leiden

Al-Jallad (forthcoming). The earliest stages of Arabic and its linguistic classification (Routledge Handbook of Arabic Linguistics)

Macdonald, M.C.A. (2004). “Ancient North Arabian.” In Woodard, R.D. (ed.), The Cambridge Encyclopedia of the Ancient World’s Languages (pp. 488-533). Cambridge

حول النقش الأول “عين عبدة”، انظر الدراسة الأحدث لـ كروبّ، والتي تتضمن إحالات إلى جميع الدراسات السابقة ومناقشة لها:

Kropp, M. (2017). “The ‘Ayn ‘Abda Inscription Thirty Years Later: A Reassessment”, in Al-Jallad, A. (ed.), Arabic in Context. Celebrating 400 Years of Arabic at Leiden University (pp. 53-74). Leiden

وكذلك دراسة سعد الدين أبو الحب (2013)، “أقدم نص لشعر عربي فصيح مدوّن: قراءة في نقش عين عبدات النبطي”، متوفر على موقع الباحث على موقع أكاديميا.

حول النقش الثاني “مقطوعة من دورة بعل”، انظر:

King, G. (1990). Early North Arabian Ḥismaic. A Preliminary Description Based on a New Corpus of Inscriptions from the Hismā Desert of Southern Jordan and Published Material, Ph.D. Thesis, School of Oriental and African Studies, London

Al-Jallad, A. (2015). “Echoes of the Baal Cycle in a Safaito-Hismaic Inscription”, Journal of Ancient Near Eastern Religions 15: 5-9

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى