فكر وفلسفة

«نيتشه»: كيف تصنع عبقريًا

 

«كيف يربي المرء نفسه في هذا العصر؟ كيف ينتشل نفسه من القلق المصاحب لانعدام المعنى؟ أين هو الفيلسوف الذي نتّخذه مربيًا على هذا الأساس؟» كانت هذه الأسئلة من أبرز ما شغل «نيتشه» فيما يخصّ التربية بتنوّعاتها. وعثر نيتشه على الإجابة. الإجابة: «شوبنهاور».


كتب نيتشه نصه «شوبنهار مربيا» قبل قرن ونصف من الزمان، كجزء رابع من كتابه «تأملات خارج الزمن». وعلى عكس ما يوحي به العنوان لم يتطرق نيتشه لأفكار شوبنهاور بالتحديد كمادة تربوية؛ إنما اتخذه مثالا طرح من خلاله أفكاره الخاصة التي شكلت الأساس الذي بنى عليه طريقه الفلسلفي وأعماله المتأخرة، على الرغم من افتراق نيتشه عن شوبنهاور في منحاه الفكري والفلسفي في قضايا مثل الدين والأخلاق والعدمية والتشاؤم وسواه، إلا أنه ظل محتفظا باحترامه الخاص لشوبنهاور وظل معتزا بالنص الذي كتبه عنه.


ترجم هذا الكتاب للعربية لأول مرة هذا العام عن النص الإنجليزي والدنماركي وغير بعيد عن الأصل الألماني، قام فيه الشاعر العراقي المقيم بالدنمارك «قحطان الجاسم» بعمل مثمر فحافظ على الروح البلاغية لنيتشه، ونقلها إلى العربية بلغة جميلة وسهلة ومفهومة، وصدر الكتاب عن أربعة من دور النشر في عمل مشترك وهي: منشورات ضفاف في بيروت، ومنشورات الاختلاف بالجزائر، ودار أوما في بغداد، ودار الأمان في تونس. وفيما يلي عرضٌ واستنطاقٌ لأفكار وخطاب نيتشه في هذا الكتاب.


  • أنت والكسل والعالَم الفاسد

أنت لست ذاتك الفريدة النادرة التي لا تتكرر، طالما لم تتحرر من قيودك اليومية والعامة وما يحيطك من آراء ومعتقدات وتقاليد، ما يبقيك في الأسر ليس الخوف كما تعتقد، ليس دافعا خفيا نحو الانسجام والتماهي، إنما هو فقط «الكسل»؛ حقيقة.

مواجهة ضجيج العالم ومعتقدات العصر لا تتم إلا باتخاذ الفيلسوف المربّي الذي يكون قد حقق في ذاته المثال الذي ترتجيه لنفسك
بطبيعة الحال الناس في كل مكان أكسل من أن يتحملوا تبعات الصدق والشفافية التي يواجهون بها ذواتهم أو جيرانهم أو اختياراتهم الحياتية؛ حقيقة. التماهي مع المجموع واتباع الرأي العام في المأكل والملبس والمشرب والانتماء، الابتسامات المزيفة والآراء السائدة أكثر سهولة ويسرا؛ حقيقة.

لكننا لسنا سوى ذواتنا، وكسلنا عن اكتشاف هذه الحقيقة ومواجهتها لن يكون بلا ثمن؛ حقيقة أيضًا. لذا علينا أن نعاني من القلق والسطحية والتكرار، علينا أن ندفع أرواحنا لأنصاف الآلهة التي ستقرر عنا مصائرنا ودروبنا، تلك الآلهة التي قد تكون دولة أو أيديولوجيا أو طائفة، حينها لن نصل إلى الوجهة التي قدر لنا الوصول إليها بالتأكيد.

تأسيسا على هذه الحقائق، يكتب نيتشه كتابه «شوبنهاور مربيا»، لا يطمع في هذا الكتاب إلا أن يؤكد على هذه الحقيقة، لا يرى بُدًا من مواجهة الذات، أو بالأحرى البحث عنها، من خلال عملية تربوية تبدأ من التوقف والنظر إلى الخلف أو إلى الأعلى، إلى تلك الأشياء البسيطة والمواقف الفائتة التي تجعل منك أنت «كما أنت».

لكن الأمر ليس بهذه البساطة بطبيعة الحال، إنها مهمة أقسى وأكثر صعوبة مما تبدو عليه، فمواجهة ضجيج العالم ومعتقدات العصر لا تتم إلا باتخاذ الفيلسوف المربّي الذي يكون قد حقق في ذاته المثال الذي ترتجيه لنفسك، ووصل إلى المرتبة التي يعكس فيها روح الطبيعة بلا مواربة أو تشويه كأنه مرآة صادقة. بالنسبة لنيتشه كان شوبنهاور هو هذا الفيلسوف.


  • مكابدة التربية وكُلفة العبقرية

لم يعد عصرنا الحديث يفرق كثيرا بين التربية الحقة التي تسعى للإنسان والطبيعة وتربط بينهما، وبين التعليم المجرد الذي يسعى لصناعة نسخ مشابهة من البشر لا تخدم سوى الأغراض الضئيلة للعلم والمجتمع.

كان شوبنهاور على مسافة كافية من الجميع مكنته من التطلع إلى الأعلى، من اختراق حجب عصره الفاسد والنظر في وجه الطبيعة وفهم غاياتها وهو في موقعه ذاك من المبادئ الأساسية المتعارف عليها للتربية هي إيجاد القدرة الخاصة للإنسان وتنميتها، وكذلك القدرة على تنمية الميزات العامة والثانوية بما يحقق الاتزان بين المركز الفردي والمحيط الجماعي للإنسان, كم نبدو بائسين -نحن أبناء هذا العصر- إذ يصعب علينا إيجاد من يفهم هذه المبادئ بين الأوساط التي من المفترض عليها الاضطلاع بمهمة التربية في المدارس والجامعات، التي لم تعد تدرك أن صناعة الفيلسوف أو الفنان مهمة شديدة الصعوبة تحتاج وعيا بأهمية الحفاظ على الإنسانية في داخل الفرد، بعيدا عن الإخلاص الطائش للعلم.


لم يعد في مقدورنا في هذا العصر إنتاج قيمنا الأخلاقية وصقلها بسبب غياب التربية الإنسانية وتغول العلم بتجريده وعمومياته، أصبحنا مجرد مستهلكين للرصيد الأخلاقي الذي كونه أسلافنا، فالفضيلة الآن كلمة بلا معنى يضحك المرء منها، وويل لمن لا يضحك.

إن التشظي الذي أصاب الروح الحديثة بسبب انحسار الأخلاق المسيحية الجبانة والعودة المنقوصة السطحية لروح العهد القديم، والتأرجح بينهما، يحكم على الإنسان أن يعيش حياة تعيسة بلا فرح، وأصبحنا في أشد الحاجة إلى المربين الروحيين كما لم نكن من قبل؛ لكن أين نجد مثل هؤلاء الأطباء الأقوياء والصامدين كفاية ليتجنبوا الإصابة في أنفسهم.


مثّل شوبنهاور بالنسبة لنيتشه الإجابة على أمنيته في أن يجد المربي الفيلسوف الذي يكون الإجابة على سؤال «كيف يربي المرء نفسه في هذا العصر، كيف ينتشل نفسه من القلق المصاحب لانعدام المعنى؟». أهم ما يميز شوبنهاور كمثال على المربّي هو الصدق الشديد التي تلمسه حتى في لغته التي تخلو من أي تصنع بلاغي يواري الحقيقة التي يخشى منها الجميع، هذا الصدق الذي حكم عليه أن يعيش منعزلا عن الأوساط الثقافية والعلمية والذي منعه من إيجاد القبول الذي يستحقه في عصره.

كان شوبنهاور على مسافة كافية من الجميع مكنته من التطلع إلى الأعلى، من اختراق حجب عصره الفاسد والنظر في وجه الطبيعة وفهم غاياتها وهو في موقعه ذاك. استطاع أيضا أن ينظر إلى الأسفل، إلى المجتمع المريض والمتشظي، واستطاع أن ينقده ويهاجمه ويكشف حقيقته، لكن هذا الموقع بالتحديد لم يكن بلا ثمن فقد كان عليه أن يحارب لأجل أن يقرأ، ولأجل أن يلقى القبول، لقد كان عليه أن يصارع الانجراف وأن يعتاد الوحدة والقلق، كان عليه كرفاقه من العباقرة مثل «غوته» و«بيتهوفن» و«فاغنر»، أن يخرج من المعركة مصابا متألما، وهذا ما يجعله مثالا مربيا حقيقيا ووحيدا في نظر «نيتشه».


  • كيف تصنع عبقريًا ؟

ليست الغاية النهائية للمجتمع هو الدولة أو السعادة الجماعية أو تحقيق المصالح المشتركة. كل هذه العبارات إنما هي شعارات يغطي بها العصر وجهه القبيح, فلا أغبى من أن يسعى الإنسان لأن يكون مواطنا صالحا أو موظفا مرموقا أو باحثا جديرا.

العبقري واحدٌ من ثلاثة: فيلسوفٌ يُدرك، أو فنان يحسّ، أو قدّيس يفقد ذاته في سبيل هذا الإدراك والإحساس. الغاية النهائية للمجتمع يجب أن تحقق الإرادة العليا للطبيعة وهي «صناعة العبقري»، هذا العبقري الذي يحقق للطبيعة بحثها عن المعنى وشغفها نحو الكمال، هو المرآة التي تعي من خلالها ذاتها فترى جمالها وقبحها، تلتف على نفسها حيث يكمن ذروة معناها في انعدامه، فترتد إلى بداياتها محاولة صنع عبقري جديد أو عباقرة جدد.

الوسط الذي من خلاله يتم صناعة العبقري داخل المجتمع هو «الثقافة»، ويتمظهر العبقري في هذا الوسط من خلال ثلاثة أشكال «الفيلسوف، الفنان، والقديس» الفيلسوف الذي يدرك، والفنان الذي يحس، والقديس الذي يفقد ذاته في سبيل هذا الإدراك والإحساس.

إلا أن المجتمع الحديث بسبب عدم وعيه بأهداف الطبيعة، ومحاولته عرقلتها بأهدافه المزيفة، فهو يضع العقبات الواحدة تلو الأخرى في مواجهة العبقري ويسعى لوأده قبل أن يولد.

أول هذا العقبات التي تواجه الثقافة هي «جشع رأس المال»: يحتاج رأس المال دائما لدعم الثقافة من باب رد الجميل، وفي نفس الوقت يتمنى لو يحدد أطرها وأهدافها. إن غايته من دعم الثقافة هي إنتاج «الإنسان المتسوق» طبقا للأسطورة التي تقول إن تعليما ومعرفة أفضل تعني حاجات جديدة وإنتاجا أكثر وأموالا أكثر, إن على الإنسان أن يزداد علما ومعرفة فقط ليحصل السعادة والأموال لهذا ينظر شذرا للثقافة التي تتجاوز أهدافها جمع الأموال وتحقيق السعادة ويفرض عليها العزلة.

ثاني العقبات هو «جشع الدولة»: فالدولة تسعى بالتأكيد لدعم الثقافة وزيادة قاعدتها الثقافية، لكن فقط لزيادة قدرتها على منافسة الدول الأخرى، إن الدولة المثقفة تقوم بإطلاق القوى الروحية والثقافية فقط بما يخدم مصالحها ويدعم مؤسساتها القائمة وليس أكثر من ذلك، بل قد تحارب المنابع الثقافية وتفتتها إن أحست بالخطر أو المنافسة.

العقبة الثالثة هي «عقبة الشكل»: من أكثر ما قد يضر الثقافة هو نزوعها نحو الشكل تغطية على فقر المحتوى، هذا الفقر الذي يتبدى في الهروب من الروح القلقة والأصيلة للإنسان في بحث عن الجمال السطحي المريح والزائل، بحث عن جمال فني غير صادق وغير معبر سواءً في اللغة أو الرسم أو الموسيقى أو حتى الفلسفة.

رابع هذه العقبات التي تواجه العبقري هي «جشع العلوم والسمات الخاصة لرجال العلم»: فالعلم بحكم ارتباطه بالحكمة والجدل والقضايا المعرفية، بارد، جاف وبلا مشاعر ولا يدرك المشاعر العميقة كالحنين وعدم الرضى وهو مؤذٍ لخَدَمه بقدر ما هو مفيد لنفسه، في محرابه ينزوي الإنسان وينسحق البشر العظماء المتأملون, فالألم لا ينتمي لعالمه ولا يشكل في أفضل الأحوال إلا مشكلة جديدة في قضايا العلم.

إن العالم أو خادم العلم عبارة عن سبيكة غير نقية من دوافع ونوازع مختلفة، لا يمكنه الوصول إلى الحقيقة إلا مشوهة باردة وميتة, فهو لا يدرك القداسة ومستعد لتفكيك أكثر الأشياء قيمة، وهو مدفوع بروح المغامرة والبحث عن الديالكتيك، أي أن رحلة البحث هي التي تجذبه وليست الحقيقة في ذاتها. ثم هو مدفوع لإيجاد حقيقة معينة تخدم جهات معينة كالدولة والكنيسة والطبقة والحكومة والأيديولوجيا.


  • بين «شوبنهاور» و«كانط»

لا شيء يقف في طريق ولادة الفيلسوف الحقيقي كأولئك الفلاسفة المزيفين الذين يعملون من أجل الدولة، إنهم رهن لإرادتها وخدم لحقيقتها المزيفة، فهي تحدد أعدادهم وأهدافهم، وتفرض عليهم البيئة التي يتعايشون فيها وتوزع عليهم أرزاقهم، ناهيك عن مسألة التدريس الذي تفرض عليهم فهم ملزمون جل الوقت في التفكير في مالا ينبع من داخلهم والابتعاد عن هذه الدواخل في سبيل معرفة تاريخية للفلسفة والأفكار، هذه المعرفة التي لا يمكنها بحال أن تكوّن فيلسوفا حقيقيا.

لا يمثل كانط بالنسبة لنيتشه فيلسوفا حقيقا؛ إنه على أحسن تقدير مفكر عظيم ساعدته موهبته الفطرية في اكتساب هذه المكانة، فكانت على خلاف تصور نيتشه عن الفيلسوف؛ كان ملتزما إلى أقصى مدى بالجامعة وبقاعات المحاضرات وبالدولة، ناهيك عن الارتداد الأخلاقي إلى النزعة المسيحية التي لم يفت نيتشه نعته بها.

على خلاف ذلك، كان شوبنهاور «حرا تماما»، وهي الميزة الجوهرية التي يجب أن يتوفر عليها الفيلسوف الحقيقي. كان شوبنهاور حرا من الجامعة ومن كسب لقمة العيش بفضل والده، وحرا من حدود القومية ونزعاتها، وتلقى تعليما متنوعا في فرنسا وإيطاليا وسواها، وساعده سفره الدائم على اكتساب آفاق جديدة، مكَّنته من نقد ومهاجمة روح عصره الفاسدة.

بالنسبة لشوبنهاور، فرجولة أبيه الصارمة وسفره المتعدد الذي علمه أن لا يحترم الكتب بل البشر، وأن لا يقر الحكومات بل الحقيقة، هي التي أنقذته من شخصية أمه المغرورة والمدعية ثقافيا، كان يعتبر أن هدف الدولة الوحيد هو توفير الحماية لمواطنيها، ولم يعتبر نفسه محظوظا بشكل معين لأنه ولد في مكان معين، ميزته العظيمة أنه لم يتم تربيته ليكون باحثا بل عمل على مضض بعض الوقت في مكتب تاجر وتنفس على أية حال خلال شبابه الهواء الحر لبيت تجاري كبير.

لم تتمكن أي من ضرورات الحياة التافهة من زعزعته، وكان حرا من السعي وراء المناصب والترقيات والعلاوات ومن بين كل الإهانات التي وجهها شوبنهاور للعلماء حقيقة: أنه لم يكن يشبههم على الإطلاق.

كل هذه الشروط والظروف هي التي مكنت لظهور العبقري في شخص شوبنهاور ومهدت لجعله مثالا تربويا يحتذى به نيتشه، ويقدّمه لغيره من الفلاسفة ومَن وراءهم من المثقّفين.

عصام حمزة

عصام حمزة؛ مهندس وكاتب وباحث مصري، مهتم بالفكر والفلسفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى