الدراسات الثقافية

الرسالة الثقافية ودور المثقف

  • مقدمة:

لعلَّني لا أبالغُ عندما أقول إن “الرسالة الثقافية” و”المثقف” هما من أكثر الأشياء التي تدور حولها التساؤلاتُ في المجتمع، سواء مِن حيث المفهوم والتعريف، أو مِن حيث الدور وطبيعة المهام، ويبدو أنها تساؤلات تعيد تكرارَ نفسها بدءا من ((جان بول سارتر)) حتى ((ادوارد سعيد))، وأعتقدُ أن تجدد أو بقاءَ هذه التساؤلاتِ قابلٌ للطرح يُعد مؤشرا لأهمية الموضوع، ومؤشرا لطبيعته المتغيرة، فكل مرحلةٍ لها طبيعتُها، ولها متغيراتها التي تجعل النقاشَ حول “الرسالة الثقافية” و”دور المثقف” مطلبا ملحا لبيان الرؤى وتحديد المواقف، أضفْ إلى ذلك أن طبيعة “الثقافة” و”المثقف” نفسيهما متغيرةٌ مع تغير عناصر الزمان والمكان والسياق الاجتماعي التاريخي؛ لذا يبدو التساؤل حول “الثقافة” ـ و”المثقف” و”دورهما” في المجتمع ـ مادةً بِكرا للعمل والإضافة والاجتهاد في كل مرة يتناولها باحثٌ بالتحليل والتأويل في ظرف مكاني أو زماني أو اجتماعي مختلف.

وهذه هي الخلفيةُ التي انطلقتُ منها في تحليلي هنا، وهي خلفيةُ أن المنطقةَ المرادَ اكتشافُها حول النظر “للثقافة” و”للمثقف” وتحديد “الرسالة” و”الدور” منطقةٌ قابلة للإضافة والاسهام والتطوير؛ لذا كان الجهدُ المقدم هنا ليس مجردَ إعادةِ تكرارٍ لِمَا سبق قبله، وإنما هو تقديم رؤيةٍ تستقرئ الواقعَ وتستلهمُ خلفية ثورة يناير، وما يحدث على الساحة حتى الأن.

  • المحور الأول: ما “الثقافة” ومَن “المثقف”؟

لعل الأمرَ يبدو سَلِسا في المفهوم العام، فعندما نُطلق كلمة “الثقافة” و”المثقف” تبدوانِ وكأنهما معروفتانِ للجميع، ولكن عند محاولة التدقيق في المعني، عند محاولة الكتابة عنهما وتحديد حدهما المانع الجامع ـ على حد وصف المناطقة ـ لتحديد مَن ينطبق عليه هذا الوصف ومن لا ينطبق، نجد أن الأمرَ ليس على هذا القَدْرِ من السهولة، وهي اشكالية تحتاج لقدر من التناول، فالكلمتانِ مشتقتانِ مِن (ثَقَف)، فما الدلالة مِن ذلك؟ يقول الدكتور محمد عابد الجابري: ((لقد لاحظنا أن مفهوم ((المثقف)) مفهومٌ ضبابي في الخطاب المعاصر على رغم رواجه الواسع، إذ هو لا يشير إلى شيء محدد، ولا يحيل إلى نموذجٍ معين، ولا يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الماضية والحاضرة.))([1])


قد تبدو مقولة ((الجابري)) بها قدر من الحدة، فالقول بأن مفهوم “المثقف” به نوع من الضبابية ينافي الاستخدامَ الواسع في أغلب البلدان العربية، ماذا عن ذلك المعنى المستقر الذي يتحدث عنه الدكتور ((محمد العناني)) في مقدمته لترجمة كتاب ((ادوارد سعيد)) “المثقف والسلطة” عندما يقول: (((…) وكذلك ارتباطها بالكلمة الحديثة نسبيا وهي (Intelligentsia) والتي جرى العرفُ في الوطن العربي على ترجمتها “المثقفين” أو حتى بطبقة المثقفين، بمعنى الذين يقومون بأعمال ذهنية أو تلقوْا قدرا من التعليم يؤهلهم لممارسة هذه الأعمال، وهم من يطلق عليهم صفة “المهنيون” أو أصحاب المهن، تمييزا لهم عن “الحرفيين” أي أصحاب الحرف اليدوية (…)))([2]).


ولكي تتضحَ الصورةُ أكثرَ علينا أن نأخذ في الاعتبار أن ما يتحدث عنه الدكتور ((محمد عناني)) هو الترجمة للمصطلح، أما ما يتحدث عنه الدكتور ((الجابري)) هو المعنى الدلالي والتأويلي المستقر والمستخدم في الأذهان العربية، فبعيدا عن التوثيقات الأكاديمية، والترجمات الغربية هناك في أرض الشارع خلطٌ شديدٌ بين معانٍ عدة منها: “الحضارة”، “الثقافة”، “العلم”، “الفن”،

وبالتالي هناك خلط شديد في المفاهيم المقابلة لهذه المصطلحات، مفاهيم مثل: “متحضر”، “مثقف”، “عالم”، “فنان”، وهذا الخلط في المجتمع العربي، وتحديدا بعد الانفتاح الاقتصادي، وبعد طغيان المادة على المجتمعات العربية، وهيمنة قيم السوق الاستهلاكي، فأصبح المواطنُ العربي ينظر لهذه الفئات بعين المقابل المادي، فيبرز مِن وسطها “الفنان” ويُقصدُ به (الممثل) ذو الأجر العالي بوصفه حالة استثنائية في منظومة القيم العربية، أما “المثقف” فهو معنى لا نجد له مقابلا اقتصاديا أو اجتماعيا واضحا، إنها وظيفة لا تأتي بمال، أو صفة لا ينتج عنها تميزٌ في المجتمع، وأنا لا أتحدث هنا عن الصعوبات التي يلاقيها المثقف وإنما عن المفهوم المترسخ في الشارع العربي، وسأعود للصعوبات في المحور الثاني.


إذن نحن بحاجةٍ مبدئيةٍ لتحليل المعني الدلالي “للثقافة”، حتى نفهم أكثرَ الدورَ المسند “للمثقف”، فرؤية المجتمع “للثقافة” نفسِها، يتحدد على أساسها بشكل كبير دورُ المثقف، ولعل أقربَ وأيسرَ المعاني التي يمكن ردُّ اللفظةِ إليها في اللغة العربية ما ورد في “صحاح اللغة” بأن ((الثِقَافُ خشبةٌ تُسَوَّى بها الرماح))([3])، ويطَّرِدُ المعنى في باقي المعاجم اللغوية بتفاصيلَ أكثر حول المادة اللغوية واستخداماتها، فبجانب هذا المعنى الحقيقي المشتمل على اصلاح الرمح الملتوي،

هناك معنى أخر استعاري فقد ورد في القاموس المحيط: ((ثَقُفَ ثقفًا وثقافة، صار حاذقًا خفيفًا فطنًا، وثقَّفه تثقيفًا سوَّاه))([4])، إذن بشكل مجازي تحتوي معاني اللفظة في اللغة العربية على دلالة اصلاح المعوج، وتقويم الملتوي، والحذق والخفة والفطنة والتعليم، إنها مجموعة من خصائص صناعة الفضيلة، وتوفير المواطن الصالح أو المواطن المتهيئ لتلقي العلم والاسهام فيه، وهي معانٍ ضمنيةٌ مستقرةٌ في مفهوم الثقافة العربية للثقافة، لكن ماذا عن المعنى في الأصل الغربي الذي تمت الترجمةُ عنه؟

ازدهرت الكلمةُ في الحضارة الغربية مع القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فالمصطلح إعادةُ انبعاثِ للمصطلح الروماني الذي دُجِّن في فرنسا، فتطور شيئا فشيئا من معاني الزراعة، إلى الحرث والإنماء، ثم حدثت طفرةٌ في القواميس والمعاجم فأصبحت الكلمةُ مقرونةً بالآداب والفنون، ثم في وقت لاحق تداخلت مع مفاهيمِ الحضارة، والتي يُنْظَر لها عامةً باعتبارها تحسين مؤسسات التشريع والتربية، ثم حدث تطوير لفكرة الثقافة في اللغة الألمانية، لتشتمل على معنى مِن معاني القومية، خاصة مع اصرار الشباب الجامعي هناك على التمسك بتقاليد حياة البلاط باعتبارها مظهر القومية الألمانية،

ثم بدأ التأكيد على الفصل بينها وبين الحضارة، وعبر القرن التاسع عشر، تم التأكيدُ على المعنى العلمي للثقافة، إذ بدأ عِلم الاجتماع والأنثروبولوجيا في التأكيد على المفاهيم الخاصة للثقافة وعناصرها الرئيسة باعتبارها مظهرا خاصا للشعوب، فهناك الثقافة الانسانية الكونية المتشابهة في بعض معالمها المعرفية، ثم هناك الثقافات المتمايزة مثل “الثقافة الفرنسية”، “الثقافة الألمانية” “الثقافة الانجليزية” وهكذا.([5])

إذن تقفُ الثقافةُ بهذا المفهوم كمرادف للأُمَّةِ نفسِها، وهو ما سيجعل المثقفَ يقف كمرادف لأمته إن اعتمدنا ذلك، فالمسحة التصنيفية الحادة التي تُعطى في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا تهدف إلى وضع حدود فاصلةٍ بين الأمم المختلفة، فـ ” تايلور ” مثلا ينظر للثقافة على أنها: ((كل مركب يشتمل على المعرفة والمعتقدات، والفنون والأخلاق، والقانون والعرف، وغيرِ ذلك من الامكانيات أو العادات التي يكتسبها الإنسانُ باعتباره عضوا في مجتمع))([6])،

إنها بهذا المعنى الذي يلقى رواجا الكيفيةُ التي يعيش بها الانسانُ حياته، سلوكياته وتصرفاته واستجاباته للواقع، لكن المعنى الأهم في هذه المسيرة ما نجده عند ((تركي الحمد))، فالثقافة من منظوره: ((عبارة عن تلك المعايير المشكلة لنظام العقل والسلوك في مجتمع ما، أو لدى جماعة ما، والتي تحدد نظرةَ الفرد والجماعة لنفسها والآخرين))([7]).

الإشكاليةُ الجدليةُ أنه من الصعب الجزمُ بأن هذا التعريفَ صوابٌ وذاك خطأ، فكل تعريف يتناول الثقافةَ من طرف معين ومن اعتبارات معينة، حتى ما تناوله ماركس من تقسيم المجتمع لبِنى عليا وبِني دنيا لا يمكن تجاهله في الثقافة أيضا، بل الواجب الاعتماد في تأسيس مفهوم واضح على كل ما سبق، ولطبيعة ما نتناوله في سياقنا هنا فإنني أميل إلى النظر للثقافة بوصفها تلك التي تحدد وجهةَ نظرِ الإنسان تجاه العالم وتجاه قضاياه وكيفية التصرف بشأنها، إنها في هذه الحالة ما لا تقوله الثقافة ويجب على الإنسان أن يقوله تجاه واقعه بالاعتماد على ثقافته في مواجهة المتغيرات،

فإذا كانت هي النمط السلوكي اليومي، أو مجموعة الفنون والمعارف والخبرات، أو المعتقدات والأفكار، فإن هذا في النهاية يتفاعل في ذهن الإنسان وعقله مكونا حالةً من حالات الإدراك الخاص التي من خلاله يتخذ قراراتِه وعلى هَدْيها يواجه مشكلاتِه، وهي رغم اعتمادها على ما يقوم به الفرد في مواجهة واقعه، إلا أنها على قدر من العمومية بحيث إنها تتشابه في المجتمع الواحد إلى حد كبير،

وإذا أردتُ أن أدلل على صحة التعريف الذي أقدمه فلننظرْ لحال السلوك المصري في التعامل مع العمل الحكومي من حيث ظاهرة الالتزام بالمواعيد الرسمية مثلا، فهذه ثقافةٌ عامة، يندر أن تجد مِن بين الموظفين المصريين مَن تدله ثقافته على أحقية الدولة في حصولها على ساعات العمل كاملة من موظفيها، بينما هناك قناعة عامة لدى كثيرين بعدم جدوى وأهمية الالتزام بالمواعيد الرسمية في ظل تدني الرواتب الحكومية مثلا ـ أو في ظل غيرها من المبررات..

ليس هذا هو المهم الأن، وهكذا في العديد من الحالات، وأنا هنا لا أقصد في المَثَل المضروب التحدثَ عن سلبيات الثقافة، وإنما أقصد توضيحا لحالةٍ كانت فيها “الرؤية” التي شكلت هذا التصرف في وعي الكثيرين واضحة. هذا المفهوم “للثقافة” باعتبارها مُوجِّهَة لرد الفعل ومحددة لوجهات النظر هو ما سأعتمده هنا، دون إغفالِ ميراثِ الكلمةِ الطويل من الفنون والمعارف والعمارة والكتابة والخطابة والمسرح والأدب وغيره بالنظر إليها كَسُبُل لتكوين قناعات ووجهات نظر، وعلى هذا الأساس سأنظر للمثقف باعتبارِه صاحبَ رؤيةٍ تجاه مجتمعه وتجاه واقعه، ويرغب في نشر رؤيته هذه إلى باقي مجتمعه.

وبناءً على هذا المفهوم يمكن القولُ إن رسالةَ الثقافةِ هي إيجاد المواطنِ الصالح، والإسهام في تكوين وجهات النظر والقناعات الصائبة لدى المواطنين، وتعليم المواطن كيفية تحليل المواقف وفهم الأبعاد واتخاذ القرارات الصائبة التي تؤثر على مستقبله، وعلى مستقبل الوطن، إنها أداةٌ أساسية لتوجيه السلوك وردود الأفعال تجاه ما يتم الاستقرار عليه بأنه صواب، وذلك يتم باستخدام المعارف والفنون والآداب والإعلام وغيرها من وسائل الاتصال المختلفة التي تتجلي فيها مظاهر الثقافة، كالمسرح والسينما والتليفزيون والراديو والندوات والمؤتمرات والجرائد والمجلات والفضائيات حتى المقاهي ولقاءات الأصدقاء، فهي تجليات ثقافية يحدث فيها فعل ثقافي بشكل واعٍ أو غير واعٍ من جميع أطراف اللقاء.

  • المحور الثاني: تنميط المثقف؟

إذن مفهوم المثقف له ارتباطٌ وثيق بنمو الفنون والآداب واحتلالها مكانة جوهرية في المجتمع، وله ارتباط أيضا بتقدم عِلم الاجتماع والانثروبولوجيا والدراسات السياسية والاقتصادية، وعلى هذا الأساس تم استيرادُ المصطلحِ في الثقافة العربية، لكن اشكالات كثيرة تتولد عند النظر في الماضي، فإذا كان ((أبو الفرج الأصفهاني)) مثلا يمكن النظر إليه على أنه مثقف، فماذا عن ((ابن حنبل)) أو ((الشافعي)) أو ((سيبويه)) أو غيرهم، ما الفارق الجوهري بين “المثقف” و”النحوي” و”اللغوي” و “الفقيه”، و”الشاعر”، أو حتى “راوي الشعر” ، فمثلا يمكن لنا أن نعد كتاب ((العقد الفريد)) لـ ((ابن عبد ربه)) على أنه كتابٌ في الثقافة، ولكن هل يمكن أن نعد كتاب ((الموطأ)) لـ(الإمام مالك)) على أنه كتاب ثقافي رغم أن له جوانبَه الثقافية؟ إن السمةَ الأساسيةَ في الثقافة العربية، أنها وُلِدت في حضن التجربة الروحية الخلقية التشريعية للدين الإسلامي،

ولِدت وجُل ميراثِها الحضاري الموروث اللغوي من الجاهلية، ثم شيئا فشيئا، ومع تطورها واحتكاكها وإقبالها النهِم على حضارة الثقافات الأخرى، تشكلت حركةٌ علمية ثقافية على قدر كبير من التطور والمنهجية، وهذا لا شك أثَّرَ على الحياة الثقافية، وأثر على طريقة رؤية كل فرد في الدولة الإسلامية الوليدة للحياة من حوله، ولدوره فيها، لكن اتساع المكان وخصوصيته جعل لكل إقليم طابعه الخاص، فكان هناك الأندلس، والشام وإفريقيا وبغداد والكوفة والبصرة، كلها عواصمُ وحواضرُ ثقافيةٌ لها سِماتها الخاصة، ومع ذلك يصعب تحديد الإطار الثقافي بشكل دقيق في تمايزه عن الاطار العلمي الديني والعلمي الدنيوي المحض، في تلك الفترات، حتى دخلنا في عصور الضعف والانحلال التي أضرت بشتى مظاهر الحياة الإسلامية والعربية والعلمية.

قد لا يكونُ التوغلُ التاريخي حول نشأة الحضارة والثقافة العربية في قديم الزمان ضروريا أو مناسبا للمقام الذي نحن فيه الآن، لكن اللمحة والتبصر مطلوبان، فالكثير من أزمات الحاضر سببها أزماتٌ في الماضي، فاضطرار ((عبد القاهر الجرجاني)) للدفاع عن الشعر في ((دلائل الاعجاز)) هو موقف صُدِّر من الماضي إلى الحاضر، موقف له ارتباط في تكوين أراء الحَجْر وعدم التفتح، واضطرار المثقف للدفاع عن حرية الابداع في الحاضر، وعدم مناقشة ميل ((الشافعي)) لفنون اللغة والشعر، واعتراض البعض عليه في ذلك، يمهد أمام وجود فصيل كامل لا يعترف ولا يرى غيرَ الوعظِ في الأدب والفن والقول، لكن السؤال الأهم : ألم تكن الحضارة العربية قديما تمتلك صورةً واضحة حول دور الإنسان بعامة في الحياة، والذي هو إعمار الكون؟ فأين ذهبت هذه الرؤية في المسيرة الحالية؟

فلننترك تفاصيلَ التاريخ البعيد لنعود لنقطة أقرب نسبيا إلينا، لمنتصف الخمسينيات من القرن الماضي، يقول الدكتور((فتحي عبد الفتاح)): ((لقد مرت مصر منذ منتصف الخمسينيات في القرن الماضي بثلاث مراحل لكل منها قسماتها وبصماتها: مرحلة اليقظة والوعي القومي، ثم مرحلة تحرير الأرض والعقل والانفتاح، ثم المرحلة التالية التي نعيشها وهي مرحلة الاتساع والانتشار الثقافي والفكري؛ وهي المرحلة التي تهيئ الظروف الناضجة للخلق والابداع والابتكار، مرحلة اعادة اكتشاف الإنسان المصري وتعميق إنسانيته من خلال توسيع مساحة حرية الرأي والفكر والاعتقاد …))([8])

مِن المهم ربط المقولة السابقة بالتاريخ الذي قيلت فيه، في عام 2003، وهو العام الذي كانت فيه الثقافة العربية تأمل أو تظن أنها عبرت إلى القرن الحادي والعشرين، بينما يكشف الظرف التاريخي الراهن في 2012 أنها لم تنجح في هذا العبور، وهو ما يلفت النظر لضرورة أن نحلل الحقبة من بدايتها، ويمكن إلى حد ما تعميم المقولة على مجمل العالم العربي، ففي حقبة الخمسينيات كانت الرغبة القومية هي الفكرة الملحة على الأوطان العربية، لمحاولتها الفكاك من نير الاستعمار،

وقد دعمت مصر ذلك بشدة، وأثمر هذا في عدد من البلدان، وسبَّبَ قدرا من العداوة مع بلدان أخرى، لكني مهتم هنا برصد التأثير الثقافي وليس المنحى التاريخي، إن هذه الفترة رغم ما بها من يقظة قومية، إلا أنها أشبه بالمنضدة غير مكتملة الأرجل، فالقومية كانت بحاجة لطفرة علمية وثقافية تتكامل مع رغبة الاستقلال، وهو ما اُختزِلَ في طفرة صناعية يسيرة، كانت غير مدروسة إلى حد كبير، ولم تستمر أو تتحول لنهضة حقيقية على غرار نهضة النمور الآسيوية التي بدأت مع مصر تقريبا. على أية حال المسحة الايديولوجية المطعمة بنكهة اليسار انتشرت واستشرت في ذلك الوقت، ولكن دون أن يكون هناك ثمرة ثقافية حقيقية تهيئ للمرحلة التالية، أو قل إن المرحلة التالية لم تأتِ اختياريا بل جاءت قَسْرا وعنوة.

المرحلة التي اختزلها الكاتبُ في قدر من التبسيط بـ ((تحرير الأرض والعقل))، وهي المرحلة التي شهدت احتلالَ سيناءَ وهزيمةَ العربِ عسكريا أمام إسرائيلَ الوليدةِ، ويبدو أنه إلى الآن لم تقم دراساتٌ كافية عن أثر هزيمة يونيو على الوعي واليقظة المصرية، والعربية بعامة، فالكبرياءُ الشديدةُ التي تشكلت على يد ((عبد الناصر))، ودول عدم الانحياز وغيرها جُرحت في احتلال سيناء،

ورغم قدرة مصر على المواجهة العسكرية فيما بعد لهذا الاحتلال وتحرير سيناء، إلا أنه يبدو أن المواجهةَ الثقافية لهذا الحدث لم تتم بعد، فمَن يتابع العديد من الروايات والكتب والمقالات منذ هذه الفترة يشعر تماما بأن رؤية الفرد لنفسه وللعالم مِن حوله تغيرت كثيرا, وأصيبت بصدع، واختلف المنظور في التعامل مع الوضع الراهن، فما بين الاستسلام، وما بين اللوذ بالغيبيات والرؤية المغلقة بأن المسلمين خيرُ أمةٍ أخرجت للناس دون إشارة لما يجب أن يفعلوه حتى يستردوا ريادتَهم في هذا العصر الخاص،

وغيرها من الرؤى التي ليس هذا وقت الاستفاضة فيها الآن، لكن كل ذلك كان له أثره في خلخلة الوعي والمفاهيم في التعامل مع العالم والكون.

على أية حال مضت الأيام وحدث فِعلُ العبور العسكري لسيناء، ثم تلاه تفاوض فمعاهدة، وما تم اعتباره مكسبا عسكريا يمكن أن يمهد لرؤية واضحة حول “الذات” و”العالم” في عبور اكتوبر 1973م، تذبذبت حوله الرؤى والمفاهيم عند ذهاب ((السادات)) إلى الكنيسيت الاسرائيلي، ومع الدخول في مفاوضات كامب ديفيد، والقبول بما لم يتم القبول به في حالة الهزيمة العسكرية، مثل الاعتراف بدولة اسرائيل والسعي للتطبيع معها، وغيره من بنود تتكشف أضرارها يوما بعد يوم، وهو ما لم يقبله ((عبد الناصر)) وهو مهزوم، وواقعة الثغرة، وغيرها، كل هذا جعل من اكتوبر 1973م فعلا لا يوفر الحدث الذي يُشفي جرح “الهوية الثقافية العربية الإسلامية المصرية”،

لكن تلى ذلك موجةٌ كاسحة أكدت على ضبابية المشهد تمثلت في الانفتاح الاقتصادي، وما أحدثه من تراكمات اجتماعية، وعَمَالة الخليج والأموال والثقافات العائدة من الخليج الذي تغيرت ملامحه بعد استخدام النفط كسلاح، كل ذلك كان له دور كبير في ضبابية المشهد، وعدم وضوح الرؤية للذات والرؤية للعالم.

ومِن منظوري فإن كل هذا أثَّرَ على المثقف، فجعل له صورة نمطية محددة في المجتمع المصري، وربما المجتمع العربي، خاصة بعد انتشار ظاهرة البطالة، فكما أشرتُ سابقا لم تعد هناك قيمة ثقافية معطاة للمثقف، فإذا قارنا مثلا حال ((عباس العقاد)) الذي باجتهاده وعلمه استطاع أن يصبح شيئا آخر يتحدث عنه التاريخ، استطاع أن يُحدث تغيراتٍ في بنية الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها،

فماذا عن حال الكثيرين من شباب الأمة الذين وجدوا أنفسهم في عهد الانفتاح يُفاضَلون بالسبَّاك وماسح الأحذية؟ فإذا بالمجتمع يمنح قيمة مبنية على المكسب المادي للمهن اليدوية أكثر من القيمة الاجتماعية الممنوحة للثقافة.

أما الإعلام فهو ذلك المشارك الأول في تنميط المثقف ووضع العقبات في طريقه مما جعله غير قادر على قيامه بأولى مهماته، تشكيل رؤية لنفسه أولا، ثم الإسهام في مساعدة الاخرين على تشكيل رؤاهم، بل أصبح الإعلام هو المهيمن على عملية تشكيل الرؤى، ومع دخولنا عصر الإنترنت والفضائيات بدأت مرحلة جديدة من تنميط المثقف ووضعه في قالب يصعب عليه الخروج منه، فالإنترنت الذي اُخترِع أساسا لاتقاء ضربة نووية، حتى لا تفقد أمريكا كل معلوماتها في حالة تعرضها لهجوم عسكري، أصبح وسيلة في وقت لاحق لنشر ثقافة وأخلاقيات العالم المتقدم وتصديرها للعالم النامي([9]).

إن الغزوَ الآن أصبح غزوا ثقافيا، ليس في ذلك خلاف، وهو ما يجعل المثقفَ الطبيعي للأمة يأخذ دورا جديدا غير إسهامه في تشكيل رؤية المجتمع لنفسه وللعالم مِن حوله، وهو دور الجندي الحارس، ولعل الدكتور ((زكي نجيب محفوظ)) تنبه لهذه الجزئية وخطورتها منذ فترة، فتساءل في كتابه ((تجديد الفكر العربي)): ((كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها؟ إنه لمحال أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل في تجاور، بحيث نشير بأصابعنا إلى رفوفنا فنقول: هذا هو شكسبير قائم إلى جوار أبي العلاء؛ فكيف إذن يكون الطريق؟))([10])

إن هذه القضايا التي أذكرها بين الحين والأخر في خِضَم السياق التاريخي هدفها التأكيد على مقدار المفارقة بين التحديات التي تُفْرَض على الأمة، والتي كان يجب أن يتحول فيها دور المثقف مِن الدور الطبيعي العادي إلى دور الجندي المتفاني الذي يحاول الحفاظ على هويته باكتشاف هوية جديدة تتسق مع القيم والمعتقدات العربية الإسلامية، ولا تنافي الحداثةَ التكنولوجية والثقافية الغربية.

إذن كانت هناك صورة نمطية أو تم تنميطها عن عمد أيام الحكم الناصري بتصوير المثقف بوصفه ذلك الذي يُسهم في دفع تقدم الأمة، فكانت أبرزَ أدواره الإسهام في محو الأمية، والإسهام في نقل المعرفة، ولم تستطع القريحة أن تصل لمرحلة إنتاج المعرفة، وكان هناك فصل حاد بين مثقفي السلطة، سواء مَن كان منهم مقتنعا بالمشروع القومي ويسهم في تأسيسه، أو من كان مستمرئا للوظائف التي تدر عليه دَخلا ليس بالهين، وفي المقابل كان هناك مثقفو المعارضة،

الذين لهم الحبس والاعتقال والطرد، وبين هذا وذاك كان هناك الشارع الذي لا يعرف مِن الإعلام إلا الرسمي، وليس هناك متنفس لتعبير الرأي إلا من خلال الرؤى المتضمنة في الأدب والشعر يصل لها مَن يصل، وتغيب عمن تغيب، فكانت ((ثرثرة فوق النيل)) مثالا للرؤية المتضمنة، فَهِمَها مَن فهمها وغابت عمن غابت، ومَن يجرؤ على طرح رؤية صريحة فسيجد ألف واحد يرد عليه ويخطِّئُه، بحجة أن البلد في أزهى عصورها وأنها تبني السد العالي وتشيِّد المشاريع وخلافه، بينما روح المبدع كانت تستشعر أن مصر تشيِّد مشروعا روحه الحضارية قلقة، وأن الفسادَ الذي ينهش في العظام سيقوِّض المبنى فوق الرؤوس يوما ما، وهو ما حدث في هزيمة يونيو.

إذن في عالمنا العربي المثقفُ مرهونٌ بالدور الذي تمنحه السلطة له، وليس له إرادة فاعلة بمفرده، فهو يحصل على شهادته فتعينه الدولة في مكان ما، وإنْ كان صاحبَ كُتبٍ أو مؤلفات، فالسلطة هي مَن تنشر له، وإن حاول النشرَ في جهات خاصة فبعد موافقة رقابة السلطة، هكذا هو الحال في الحقبة الناصرية والذي استمر طويلا لم يتغير إلا مع مطلع القرن الحادي والعشرين،

وهو التغير الطفيف غير المقصود في الآن نفسه، لذا ـ وعودة لمقولة الدكتور ((فتحي عبد الفتاح)) التي قالها في عام 2003م بأن الساحة مفتوحة للإبداع، وبأن مرحلة اكتشاف الذات المصرية مهيأةٌ الآن، فهي مقولة صحيحة نظريا، أو واجبة نظريا، لكنها إجرائيا وعمليا كانت تمر بمنعطف خطير، فكيف ذلك؟

إذا سَلَّمنا بأنه تم تنميط المثقف بصفته صاحب الدور المنوط به من السلطة في حقبة الناصرية، ولما جاءت حقبة السادات وبدأت حقبة الانفتاح الاقتصادي، وعلت قيم رأس المال والسوق الاستهلاكية ولم يكن هناك دور حقيقي ولا مشروع يتبناه غير مفاوضات السلام تراجعت صورة المثقف، ليتم تنميطها مِن جديد بصفته ذلك المتعالي على المجتمع،

ذلك المفصول عن قضاياه، ومع دخول عصر مبارك الذي بدأ بشكل واعدٍ مع المثقفين، وحرص على افتتاح وحضور معرض القاهرة الدولي للكتاب، لكن في الحقب المتأخرة تراجعت جدا الثقافة، خاصا مع محاولة تمرير مشروع التوريث، لتصبح الحركة الثقافية حكرا مِن حيث السلطة على أعضاء لجنة السياسات للحزب الوطني المنحل، وتراجعت القيمة الاقتصادية للتعليم والفنون والتأليف والآداب،

وفي الوقت نفسه زادت الهموم الاقتصادية للمجتمع، في خضم هذه الصورة الباهتة تم مسايرة الغرب في التكنولوجيا، فدخل إلى مصر الإنترنت والمحمول والقنوات الفضائية، وهو ما أوجد واقعا ثقافيا جديدا مغايرا لِما عهده المجتمع المصري من قبل.

إذن انطلقنا لعصر الإنترنت والفضائيات بصورة باهتة للمثقفين تحصرهم في مجموعة النخبة المتعالية عن المجتمع، وغاب التمثيل الحقيقي للثقافة في أرض الواقع، ويجدر هنا التنويه عن اعتمال فكر ((الاسلام السياسي)) على أرض الواقع المصري، الذي كان حاله مختلفا من حيث التواصل الجماهيري مع وجود القنوات الدينية،

ففي حالة الثقافة العامة الدافع غير موجود لدي المتلقي ليجهد نفسَه في المعرفة والتعلم، وهو لا يجد في نفسه الاحترامَ أساسا لمن يحاول توصيل الثقافةِ إليه، أما في حالة المعرفة الدينية فالجميع يريد أن يعرف ماذا يريد الله منه؟ أو كيف يعبد ربه؟ الجميع يتلقى الخطابَ الديني بذهن وروح مفتوحة تحترم مَن يحدثها، وفي وسط هذه المعرفة يتم تمرير الرسالة التي يرغب الأخرون توصيلها،

وهي رسالة نفي الأفكار الأخرى التي تقلل من شأن الفكرة الإسلامية، أو تحديدا مِن شأن القائمين على الفكرة الإسلامية بصفتهم الأوصياء، وهو ما جعل حديث ((النخبة الثقافية)) يبدو مجرد سحابة في الفضاء لا تمطر أبدا ولكن الجميع يشاهد ظلها، ولم تحدثْ محاورةٌ حقيقية بين أفكار الإسلام السياسي والنخبة الثقافية، وهو ما نلمس له ملمحا حادا على المجتمع في الوقت الراهن متمثلا في الصدام الانتخابي، والصدام عبر الرؤى والأفكار بين الاحزاب التي تشكلت بعد الثورة بمختلف طوائفها.

ساءت الأوضاع على أرض مصر إذن، وبدأت تتشكل حركاتٌ مثل ((كفاية))، و((الجمعية الوطنية للتغيير))، وغيرها، لكن أين يمكن موقعة مثل هذه التوجهات ثقافيا؟ ما سَمْتُها العام وملامحها؟ يمكن القول إنهم يعتمدون في تكوينهم على بعض المثقفين، ويختلط تكوينهم بمختلف فئات الشباب التي هي أكثر تكوينات هذه التحركات،

ويمكن القول إنه ظهرت فئة ثقافية جديدة من عينة ((المدونين))، هؤلاء الذين نجحوا في إيجاد آلية للتواصل مع الجمهور، لكننا لا نعرف حقيقةَ تكوينهم الثقافي، فهم لا يقدمون اعتمادهم كمثقفين للمجتمع، والذي كان يتمثل سابقا في موهبة أدبية، أو مجموعة من الكتب، أو شهادة علمية، هذا تم التخلي عنه في عصر المدونات، ليصبح أي شخص في أي مكان قادرا على الوصول لأي عدد وفي أي مكان، وهو وضع ثقافي ملتبس وغائم في حد ذاته.

إذن بدأ المثقفُ منمطا، وانتهى في الفراغ مِن منظور المجتمع العربي، ليس هناك صورة محددة حول طبيعته ودوره ومهمته، ولكن ثورات الربيع العربي أوجدت فجوة وملمحا ملتبسا بضرورة أن يكون للمثقف دور، فالكثير ممن تصدروا المشهدَ السياسي على مستويات متفاوتة وقفوا عاجزين عن التفاوض والتحاور، وكثيرون آخرون سارعوا في استخدام مصطلحات ثقافية معقدة مثل: ((تكنوقراط))، ((ليبرالية))، ((علمانية كلية وعلمانية جزئية))،

وهكذا، بدأ الناس يشعرون بأهمية الثقافة وبأن لها قدرةً على الإسهام في تشكيل الواقع وفي تجنيب الوطن الكثير مِن الكبوات، وفي خضم هذا بدا واضحا أن المثقف الحقيقي في أزمة من حيث التوافق مع ذاته ومهماته، ومن حيث التوافق مع المجتمع.

  • المحور الثالث: دور المثقف بعد الربيع العربي؟

أوافقُ الذين يصفون تسميةَ الربيعِ العربي بأن بها قدرا من التسرع، أو أنها تفاؤلية إلى حد كبير، فنحن إلى الآن لا نعرف ما ستؤول إليه الأمور في المستقبل، ولا أعتقد أن سلبياتِ العقودِ الطويلة التي مضت سيكون من اليسير التغلبُ عليها في فترة بسيطة من الزمن، لكني متأكد من أن المجتمعَ الآن أصبح في حالة اقرار لدور المثقف، وفي مطلب حاد لتواجده ولقيامه بدوره الذي وضح أن غيابَه أدى للكثير من التخبط في حالة الربيع العربي،

وفي مصرَ مثلا عندما سادت حالة من التوجهات ناحية ((نعم)) في الاستفتاء الدستوري، ثم في قيام الكثير من الأحزاب التي عندما تحاول القيامَ بنشاط حقيقي تجد نفسها عاجزةً أمام فهم مصطلحات السياسية والمعنى الكامن والعميق وراءها، بدا واضحا أن الساحةَ مفتوحةٌ مع هامش الحرية الكبير الذي تحقق على أرض الواقع لممارسة الكثير من النشاط الثقافي المطلوب،

لكن لماذا لم نشهد مع قرابة أكثر من عام نشاطا ثقافيا زخما يتناسب مع احتياجات المجتمع؟ هل لأن المثقفَ تعود ألا يعمل إلا من خلال مؤسسات حكومية؟ وهي المؤسسات التي تعاني اضطرابا وارتباكا في الأداء منذ الثورة، بجانب اصرارها على البقاء وفق نفس مستوى الأداء، ووفق الذهنية الخاصة بالنظام السابق.

أم هل لأن نظرةَ ورؤيةَ المثقفِ لنفسه وللمجتمع من حوله غائبة؟ وهو ما جعله يتحسس الطريقَ الوعرة أسفل قدمه في مواجهة ما يحدث على أرض الواقع دون أن يستطيع أن يستبين لنفسه الطريق أولا، ومن ثم إرشاد الآخرين، ومن منظوري كل ما قلته كان السبب في عدم ازدهار نشاط ثقافي حقيقي حتى الان منذ الثورة.

يقول ((إدوارد سعيد)): ((وأنا أرى أن المثقفَ الحق يتفاعل مع أوسع جمهور ممكن، أي أنه يتوجه إليه (ولا يستهجنه) فهذا الجمهور الواسع هو السند الطبيعي الذي يستمد منه المثقف قوته))([11])، ولعل هذه العبارة توضح الكثير من الدور المنوط بالمثقف، ومن مشكلته أيضا، فهو يجب أن يكون على مقربة من الجمهور، يجب أن يدرك أن هذا الجمهور هو السند الحقيقي له، فـ((ادوارد سعيد)) يفترض أن المثقف في حالة صدام دائمة مع أصحاب المصالح ممن تتعارض مصالحهم ضد المجتمع،

وبالتالي هو يدافع عن هذا المجتمع، وليس من المنطقي على الإطلاق أن يكون المثقف متعاليا على أفراد المجتمع الذي يدافع عنه، إن ((ادوارد سعيد)) يحذر من ذلك المثقف الذي يقف على وجه النقيض من المثقف المدافع عن قضايا المجتمع، المثقف الذي منحه ((جرامشي)) أدوارا محددةً تتمثل في: العاملين في الإذاعة والإعلام، والأكاديميين والمهنيين، ومحللي الكومبيوتر، والمحاميين، والمستشارين الحكوميين، وخبراء السياسية، ومؤلفي التقارير ومراكز الدراسات، وغيرهم مِن أصحاب المواقع الثقافية الرسمية وشبه الرسمية، والذي يمكن أن تنزلق بهم أماكنهم لتوظيف ثقافتهم ضد مصلحة المجتمع([12]).

لقد طرح الدكتور ((نبيل علي)) مجموعة من الأسئلة قد تبدو طويلة لكنها تلخص الكثير من الرؤى، يقول: ((أي نوعٍ من المثقف تحتاج إليه أمتُنا العربية في هذه الفترة الحاسمة [كان حديثه في 2001] مِن تاريخها ..؟ هل هو:

– المثقف الناقد الراصد مناضل المقاعد الوثيرة؟ (أم)
– المثقف المناضل المشتبك مع واقعه، ولامساهم في تغييره والمتحدث باسم جماعته؟ (أم)
– المثقف صانع الأيديولوجيا وحارسها وشُرْطيُّها أحيانا؟ (أم)
– مثقف أمريكا اللاتينية الذي لا يفرق بين صراعه مع قوى الداخل، وصراعه مع الجار الأمريكي المتداخل؟ (أم)
– مثقف الناصرية المتشبث بأحلام عصره الذهبي برغم إدراكه لتناقضاته؟ (أم)
– مثقف الثورة الإيرانية حامل رسالة الإمام؟ (أم)
– مثقف الفكر الإسلامي المدافع عن التراث والهوية بكل طيف مواقفه من الغرب؟ (أم)
– مثقف الأكاديمية المنشغل بالقضايا النظرية والنظرة الكلية وتحليل الخطابات الاجتماعية؟
ولا تكتمل الصورة دون أن نزج بمثقف السلطة، ذلك البارع في تشويه الواقع، ووأدِ الأصيل والبديع والمختلف، المتمرس في مقايضة نتاج الأقلام وزرع الأوهام باحتلال المناصب …)) ([13])

وباستثناء حالة المثقف الايراني التي لا أعرف لِما أوردها الدكتور ((نبيل)) في سياق حديثه، فإن هذه التساؤلاتِ تُعَد مثالا رائعا لتوصيف مجمل الوضع الثقافي القائم، ومجمل القضايا التي اهتم بها المثقفون وجعلوها شعارا وقضايا لهم حتى أفنوا فيها عمرهم، والطريف أن أغلب صراعات المثقفين هي صراعات على مستوى التنظير، فالملاحظة الخطيرة التي تنبه إليها ((شريف يونس)) حول كثرة الكلام من المثقفين حول السلطة والنظام ولا وجود للكلام عن الواقع،

فبدلا من ممارسة الفكر الحر على أرض الواقع مثلا يتم الحديث عن أهمية ((الليبرالية))، وبدلا من إعمال العقل وتفنيد الحجج يتم الكلام عن ((أهمية العقل))([14])، هنا تأكيد على حالة التعالي التي يعيشها المثقف، وحالة إغفال الواقع وإغفال مشكلات المجتمع المصري والعربي التي يحتاج لمناقشتها والتبصرة بها ولا يجد مَن يناقشه، لذا إذا أردنا في هذه الفترة الإجابةَ عن سؤال: كيفية إدراك العربي لنفسه ولمجتمعه وللعالم مِن حوله في الحقبة الأخيرة، أعتقدُ أننا لن نجد اتفاقا على الملامح العريضة في ذلك، بل سنلمس حَيْرةً وضبابية حادة.

نحن بحاجة لتأسيس مهام جديدة إذن في ضوء المتغيرات التكنولوجية والمتغيرات السياسية والاجتماعية، يمكن تأسيس هذا الدور من خلال الأسئلة التي أوردها الدكتور ((نبيل))، وبتفادي السلبيات التي تحدث عنها ((شريف يونس)) فنقول إننا بحاجة أساسية إلى مثقف يعرف كيف يصل لمجتمعه،

مثقف يكسر حالةَ العزلة والانغلاق والتعالي عن المجتمع، ويستطيع تحقيق ما قاله ((ادوارد سعيد)) من اتخاذ سند جماهيري له، لكن المشكلة الجوهرية التي تواجه المثقفَ أنه لا يستطيع التعامل إلا مع حد أدنى من الثقافة لدى الآخر الذي أمامه، ونحن في شعوب يغلب عليها أميةُ القراءة والكتابة، والأمية الثقافية،

لذا لا أرى غضاضةً إن كانت أولى أدوار المثقف أن يعود للبداية، لاتخاذه دوره الطليعي في محاربة الأمية، فلا معنى لكتَّابٍ وأدباء ومفكرين في مجتمع تصل الأمية فيه إلى 48%، فمَن سيقرأ ويستمتع بهذا الفن إذن، على المثقف أن ينهض من مقعده الوثير، وأن يبدأ في التلاحم مع أرض الواقع.

الدور الثاني أنه في معركته مع الأمية الداخلية ألا ينسى معركةَ الخارج، فهناك الكثير من الصور المشوهة والمغلوطة التي تقدم عنا عند الآخر الغربي، وهي الصور التي سمحت لعودة الاستعمار مرة أخرى بعدما خِلناه لن يعود للعالم، وإن كان تحت مظلة أممية، على أية حال أنا لست بحاجة لأدلل على أهمية الدور الخارجي للمثقف بوقوفه أمام محاولات التشويه الغربية، والتي تمرر عبر آلة إعلامية وأكاديمية أحيانا في الغرب.

الدور الثالث التواجد الالكتروني، والوصول للناشطين الالكترونيين، فلا يعني الاهتمام بأصحاب الأمية أن نهمل الأقربَ للثقافة في العالم الافتراضي، فهناك الكثير من العقول تتشكل في فضاء الإنترنت الآن في غيبة تامة عن كل شيء، وعلى المثقف أن يكون مدركا لذلك، وله قدرته على التواجد وعلى استغلال مستجدات العصر لصالح وصوله للناس.

الدور الرابع أن يكون المثقف أداة للرصد والمكاشفة فموقعه الأساسي مع المجتمع، إن حدث عليه أي ظلم أو عدوان لا يتجاهله، ولا يتخطاه لصالح السلطة، ولا أميل لمن ينادون الآن بإلغاء مؤسسات الدولة الثقافية، فنحن لم نصل لحالة التعافي التي تهيئ لوجود حالة ذاتية من الثقافة، وإنما أميل لبقاء هذه المؤسسات وزيادة دعمها، وقيامها بدور حقيقي لحين تعافي الحال الثقافي في مصر، وفي مرحلة لاحقة، ومع انتشار مفهوم الثقافة ومع إقبال المجتمع عليها، ومع تحسن حال المجتمع، وهو ما يمكن أن يكفل قدرة على تغطية التكاليف للعمل الثقافي، ساعتها يمكن الحديث عن إلغاء قطاعات الثقافة في الدولة.

الدور الأخير وهو الأخطر والأهم، فإنه من وجهة نظري يبدو واضحا للعيان الآن أن الصراع الأيديولوجي قد أفل في العالم كله لصالح الصراع الاقتصادي التكنولوجي، وأن أغلب دول العالم أقلمت الفكر وطوعت – وتُطَوِّع – الثقافة العالمية لصالحها، بل تقدم إسهامها فيها، ونحن ما زلنا في مشكلات الماضي، في الخلافات التي طرحت منذ ((طه حسين)) و((علي عبد الرازق))، أو قل منذ ((ابن رشد)) و((الغزالي))،

لم ننجح بعد في ايجاد فكرنا الخاص وسمتنا الخاص، بينما هذا هو المطلب الأساسي من المثقف الذي نحتاج لتكاتف من أجله، وهو محاولة العمل على ايجاد فكر جديد ورؤية جديدة تسهم في دفع العمل وتخليصنا من منزلقنا الذي نحن عالقون فيه الآن، فنخرج من حالة الصراع إلى التأسيس، ومن حالة الصدام إلى التكامل، وهو ما يحتاج إدراكا ورصدا وتحليلا لواقعنا الراهن، وموقعنا من العالم، وتحليلا لواقع العالم ونظرته لنا، وتأملا ببصيرة في ميراثنا العربي الإسلامي، وميراث الحضارة البشرية جميعها، وتصرفا بدون حساسية أو كرامة مجروحة.

وكلما مضى على المثقفين الوقتُ الذي لا يدركون فيه مدى أهميةِ دورِهم، ومدى خطورة تقاعسهم عن القيام بدورهم في المجتمع، كلما زاد ذلك مِن أثر تهميش المجتمع للثقافة والمثقفين، وكلما كان ذلك مانعا عن وصول المجتمع المصري والعربي لحالة التقدم التي نأملُها.


هذا البحث؛ فاز بجائزة ملتقي الصعيد الثقافي 2012م


  • مراجع الدراسة:

*- الجوهري: الصحاح في اللغة، دار العلم للملايين، ط4، 1990.
*- ادوارد سعيد: ((المثقف والسلطة))، ترجمة د.محمد عناني، دار رؤية، القاهرة، 2006.
*- الفيروز أبادي: القاموس المحيط، مكتبة الرسالة، 2009.
*- تركي الحمد: الثقافة العربية في عصر العولمة، دار الساقي، 1999، القاهرة.
*- دنيس كوش: ((مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية))، ترجمة د.منير السعيداني، مراجعة: د.الطار لبيب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007،
*- د.زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، مكتبة الأسرة 2004، القاهرة.
*- شريف يونس: ((سؤال الهوية: الهوية وسلطة المثقف في عصر ماب عد الحداثة))، ميريت للنشر والمعلومات، 1999، القاهرة.
*- د.فتحي عبد الفتاح: الثقافة والعولمة، مكتبة الأسرة، 2003، القاهرة.
*- د.محمد عابد الجابري: ((المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل، ونكبة ابن رشد))، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 2000، بيروت.
*- د.محمد عناني: مقدمة ترجمته لكتاب: ((المثقف والسلطة))، لإدوارد سعيد، دار رؤية، القاهرة، 2006.
*- مجموعة من الكتاب: ((نظرية الثقافة)) ، ترجمة: د.علي سيد الصاوي، مراجعة وتقديم: أ.د.الفاروق زكي يونس، عالم المعرفة، رقم 223، يوليو /الكويت 1997.
*- د.نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات، عالم المعرفة، عدد 265، يناير 2001/ الكويت.

[1] – د.محمد عابد الجابري: ((المثقفون في الحضارة العربية: محنة ابن حنبل، ونكبة ابن رشد))، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، بيروت، 2000، صـ 14
[2] – د.محمد عناني: مقدمة ترجمته لكتاب: ((المثقف والسلطة))، لإدوارد سعيد، دار رؤية، القاهرة، 2006، صـ9
[3] – الجوهري: الصحاح في اللغة، دار العلم للملايين، ط4، 1990، مادة (دردب)
[4] – الفيروز أبادي: القاموس المحيط، مكتبة الرسالة، 2009، مادة (الدَّرْدَبَةُ)
[5] – راجع: دنيس كوش: ((مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية))، ترجمة د.منير السعيداني، مراجعة: د.الطار لبيب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2007، صـ15-29
[6] – نقلا عن: ((نظرية الثقافة))، مجموعة من الكتاب، ترجمة: د.علي سيد الصاوي، مراجعة وتقديم: أ.د.الفاروق زكي يونس، عالم المعرفة، رقم 223، الكويت يوليو 1997، صـ9.
[7] – تركي الحمد: الثقافة العربية في عصر العولمة، دار الساقي، 1999، القاهرة، صـ9
[8] – د.فتحي عبد الفتاح: الثقافة والعولمة، مكتبة الأسرة، 2003، القاهرة، صـ15
[9] – د.نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات، عالم المعرفة، عدد 265، يناير 2001/ الكويت صـ10
[10] – د.زكي نجيب محمود: تجديد الفكر العربي، مكتبة الأسرة 2004، القاهرة، صـ6
[11] – ادوارد سعيد: ((المثقف والسلطة))، ترجمة د.محمد عناني، مرجع سابق، صـ23.
[12] – السابق، صـ43.
[13] – د.نبيل علي: ((الثقافة العربية وعصر المعلومات))، مرجع سابق، صـ58.
[14] – شريف يونس: ((سؤال الهوية: الهوية وسلطة المثقف في عصر ماب عد الحداثة))، ميريت للنشر والمعلومات، 1999، القاهرة، صـ34-38.

 

وائل النجمي

ناقد وباحث ومترجِم مصري. له كتابان: "تلقي البنيوية في النقد العربي"، و"متاهة النقد العربي المعاصر". لـه العديد من المشاركات في العديد من الدوريات والندوات والمؤتمرات العلمية والنقدية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى