لسانيات
أخر الأخبار

جهات الاعتقاد في العربية -1-

  • الرموز

عا: عامل

مع: معمول

Ø: علامة شغور

{+/-}: رمز الوجوب

[+/-]: رمز الإمكان

3: رمز الوجود

[…..]: حدود البنية

[عا*مع]:  البنية النحوية

[ع]: رمز للمتكلم العامل

[مع]: رمز للمضمون القضوي

اتجاه عاملي :   _ــــــــــــــــــ_

اتجاه تخصيصي تعييني :  -ــــــــــــــــــ-

  • تقديـــم عام

 البحث في جهات الاعتقاد بحث في جانب من جوانب النظرية النحوية العربية، ونقصد به موضوع الجهة (Modality∕ Modalité). فنتتبع ما يطرحه من قضايا، ونتقصّى ما يثيره من إشكاليات نظرية وإجرائية. وهي إشكاليات أثارتها الدراسات اللسانية الحديثة بما أحدثته من جدّة في مناهج البحث، وتنوّع في منطلقاته، وتحديث في جهازه الاصطلاحي.

 يقوم عملنا على دراسة أشكال التعبير عن جهات اعتقاد المتكلّم، ويثير قضاياها المعرفية واللغوية في النظرية النحوية العربيّة.فينظر في الأبنية التركيبية والإعرابية المنتظمة فيها، وهو نظر في معاني النحو وأحكامه الكليّة المجرّدة التي ينشئ بواسطتها المتكلم كلامه ليعبر عما هجس في الخاطر، و سكن في النفس.

ولعل من دوافع اختيارنا البحث في جهات الاعتقاد في النظرية النحوية العربية ما تشهده الدراسات اللسانية الحديثة من تطور في الاهتمام بدراسة الجهة، يوازيها قلة الدراسات العربية التي أولت اهتمامها بهذه المسألة والمزالق النظرية والاضطراب الناتج عن مضايق الاستفادة من الترجمة، وما ترتب عن ذلك من نتائج أثّرت على توجّهات البحوث.

نتيجة ذلك ظلّ مفهوم الجهة يشوبه من الغموض ما يدفع إلى تناوله بالدراسة، ويعتريه من سبل التقصير ما يتطلب مزيدا من البحث وإثارة إشكاليات منها يتعلق بالمنهج، ومنها ما يتعلق بالمعرفة في النظرية النحوية العربية.

والنظرية النحوية العربية نقصد به جماع التراث النحويّ على أننا لم نشأ أن نترك البحث دون تخصيصه، فقصرناه على مدونة واحدة من مدونات التراث النحويّ، نقصد بها كتاب المقتضب للمبرد(285 ه)[1].

ومبرر اختيارنا لكتاب المقتضب يعود لما له من أهمية تأسيسية في النظرية النحوية العربية بعد الكتاب لسيبويه(180ه)[2].والكتاب يمثّل الرافد الثاني الذي يفتح لنا أبوابا نستعين بها لإثراء تصوّر المبرد فيما يخصّ موضوع البحث.على أننا لن نقصر الاستفادة على الكتاب، وإنّما ننظر في مؤلفات أخرى كالمفصل لابن يعيش، وشرح الكافية للرضي الاستراباذي[3]، والدلائل للجرجاني[4].

الإشكال الأساسي الذي يحرك عملنا هو:

كيف يمكن مقولة جهات الاعتقاد نحويّا قبل دراستها مقاميّا؟

للإجابة عن هذا الإشكال ننطلق من أرضيّة نظريّة يلتقي فيه المعطى اللساني ممثلا في دراسات لسانية تداوليّة تشهد تطورا في الاهتمام بقضايا جهات الاعتقاد و الأعمال اللغويّة، بالمعطى التراثي، ممثلا في النظرية النحوية العربية، وما تطرحه من قضايا.وهي قضايا ترتبط بالتنظير والتصور والاصطلاح تستدعي إعادة مساءلتها.

خوّلت لنا أرضيتنا النظرية أنّ نصوغ أهدافا-فرضيات، لعل من أهمها:

  • إثبات كون جهات الاعتقاد مصطلحا لسانيّا حديثا لا ينفي كونه مفهوما مترسّخا في البحث النحوي، وفتح أفاق جديدة لمقاربات متعددة و متنوعة.
  • النظر في النظرية النحوية العربية بإثارة قضايا الإعراب عن جهات الاعتقاد، ودراسة الأبنية النحوية المفصحة عنها، وتقصي الخلفيات النظرية و الإجرائية المؤسسة لتناول نحاتنا لقضايا البنية و الدلالة.
  • إثبات أنّ البحث في جهات الاعتقاد بحث في مركزية المتكلم في النظرية النحوية العربية، فهو ينشئ الأبنية ليعبر بها عن مقاصده وأغراضه.وإذا كانت كل بنية نحوية اعتقادا ما فإنّنا نزعم أنّ جهات الاعتقاد بنيوية إعرابيّة.

لتحقيق هذه الأهداف قسمناه العمل إلى ثلاثة أبواب؛

  • يمثل الباب الأول مدخلا نظرياً نبحث فيه الجهة مفهوما ومصطلحا، فنقدّم فصلا أول في مفهوم الجهة في الدراسات اللسانية الحديثة.ثم ننظر في فصل ثان في مفهوم الجهة عند المناطقة والفلاسفة و النحاة.
  • نتناول في الباب الثاني حضور أشكال الإعراب عن الجهة في المقتضب.ونفرّعه قسّمناه ثلاثة فصول؛ نعرض في الفصل الأول للخبر من حيث التعريف والتصنيف. وأما الفصل الثاني فنخصصه لدراسة غير الواجب وندرس في الفصل الثالث النداء والتعجب.ونختم الباب الثاني بالنظر في الفرق بين الإيقاع النحويّ والإيقاع البلاغي.

  • مقدمة:

نتناول جهات الاعتقاد مصطلحا ومفهوما، وما يطرحه ذلك من قضايا معرفية في الدراسات اللسانية الحديثة من ناحية، وفي البحوث المنطقية والفلسفية والنحوية القديمة من ناحية أخرى.وننظر في الخلفيات النظرية والإجرائية المؤسسة لتناول نحاتنا لمفهوم الجهة، تمهيدا لتحديد تصوّر صاحب المقتضب لها من حيث التعريف والتصنيف و مناهج التحليل.

    نشير قبل بحث القضية الاصطلاحية إلى ملاحظتين:

 تتعلق الأولى بقلة الدراسات العربية الحديثة التي بحثت مفهوم الجهة.بل إنّنا لا نجد حسب اطلاعنا بحثا مستقلا بالجهة في التراث النحويّ، وإنّما ترد الإشارة إليها ضمن بحوث تعلقت بمعالجة قضيّة البنية النحوية بالدلالة.وقد أثيرت هذه القضية في البحث اللساني الحديث، وتسرّبت إلى البحوث العربية التي اختلفت باختلاف مناهج البحث ومنطلقات أصحابها النظرية المدرسية.ونتيجة ذلك تولد اتجاهان:

  • اتجاه يعتبر الدلالة غير البنية النحوية، وإنّما تتصل بمستويات أخرى، منها مقامات التواصل.وعيب هذا الاتجاه أنّه يفصل بين النظام والنظم أو بين الأبنية النحويّة المجرّدة والأبنية النحوية المنجزة في المقامات التواصلية، ولم يعتبر الثاني صورة من الأول.
  • اتجاه ثان يقوم على اعتبار أن الدلالة لا وجود لها خارج البنية النحوية.وثمة يعتبر أنّ البنية النحوية هي الدلالة[5].

نتبنى الاتجاه الثاني لقناعتنا أنّ أصوله متجذّرة في صلب تصورات نحاتنا لعلاقة الأبنية النحوية بالمعاني النحويّة وفاء منهم لمبادئ العمل الإعرابيّ.

أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بإبراز الاختلافات التي صاحبت ظهور مصطلحModalité في الدراسات النحوية العربية الحديثة.فقد ترجم مبارك المبارك مصطلحModalitéبالمرادف العربي ً المشروطيةً وعرّفه بقوله الطريقة التي يعتمدها المتكلم أو الكاتب في التعبير عن موقفه”[6].ويترجم خليل أحمد خليل المصطلح بالمرادفات التالية:جهة وكيف وكيفية، ولكنّه يعتمد في التعريف لفظة ًكيفيةً”فالإمكان والوجوب والاستحالة ثلاثة أزواج من مفاهيم الإدراك التي تدعى مقولات الكيفية[7].

تسربت خاصية غياب الدقة الاصطلاحية إلى البحوث المتخصصة، فترجم تمام حسان المصطلح Aspect  بالمرادف العربي جهة، وعرفه بأنّه ما يشرح موقفا معينا في الحدث الفعلي ويكون ذلك بإضافة ما يفيد تخصيص العموم في هذا الفعل ويقابلها في الانجليزية Aspect”[8]

اخترنا للتعبير عن Modalité مصطلح الجهة، ونعني به مبدئيا”تعبير المتكلم عن اعتقاده قي مضمون كلامه”[9]ونستعمل مصطلح”المظهر”للتعبير عن مصطلح Aspect يقصد به في البحوث اللسانية”التمثل الإدراكي للمتكلم للحدث في مدته أو حدوثه أو تصوّره للطريقة التي يقع بها الحدث في الزمن”[10].فالجهة والمظهر يتداخلان في التعريف.

ويجد الفاسي الفهري في لفظ الموجه مرادفا دلاليّا لمصطلح Modalité ويجعله عاملا أساسيا،  يجب على الباحث اعتماده، لتحديد مستويات التحليل الإعرابي والنحوي[11].

ويكشف التحليل السابق لوضعية مصطلح” الجهة ” في الدراسات اللسانية الحديثة كثرة المفاهيم والمصطلحات المرادفة لمدلول .Modalitéوهذا يخالف في نظرنا مقتضيات البحث العلمي الذي يسعى إلى الإجماع والدقة والشمولية في التصور والتنظير.

 إنّ الناظر في التراث الفلسفيّ والأصولي والمنطقي والنحويّ العربي يجد أنّ مصطلح “جهة”مصطلح كاف للتعبير عما ساد في البحث اللساني الحديث تحت تسميةModalite، ويقصد  به جهات اعتقاد المتكلم في كلامه.

غير أنّ تحديد مفهوم الجهة يطرح عدة صعوبات لا تقلّ عن الصعوبات التي رافقت قضية المصطلح.وتعود هذه الصعوبات إلى تعدد الأبحاث والاتجاهات والمناهج التي جعلت من موضوع البحث محور الدراسة.فقد اعتنى بالجهة اللسانيون والفلاسفة والأصوليون والنحويون قديما وحديثا.ونبدأ بطرح القضية المفهوميّة للجهة، وما تثيره من قضايا في الدرس اللساني  الحديث.ثم نعرض للتصورات القديمة المنطقية والفلسفية والنحويّة.ثم ننظر في تصوّر المبرد للجهة.

 تعريف الجهة Modalité في الدراسات اللسانية الحديثة:

تمهيد: طرحت الجهة لسانيا في علاقته بقضايا الزمان اللغوي، فكثرت تعريفاتها وتنوعت تصنيفاتها نتيجة اختلاف مناهج البحث وتنوّع المنطلقات النظرية التي كانت تقود اللسانيين.وتداخلت دراسة الجهة مع مسائل الصيغة والمظهر والعمل اللغويّ ، فقدمت عديد المقترحات.

1- حد الجهة و تصنيفاتها:

من أسباب إعادة طرح مفهوم جهات الاعتقاد في الدرس اللساني الحديث:

  • معالجة علاقة اللغة بالكون وعلاقتها بالفكر والاعتقاد في المنطق الجهي، وتصوّر أرسطو لمفهوم الجهة وتحليل أصنافها.
  • ما أحدثه منطق بوررويال من انجازات مهدت لما رسّخه فريجه من تصور يقوم على الفصل بين جهة الوجود(Modalité d’existance)وجهة الاعتقاد(Modalité de croyance)أي الفصل بين قوة القول والمضمون القضوي الإحالي المرجعي، وذلك في جميع القضايا[12]مدخلا لتناول البحوث اللسانية مفهوم الجهة.

هذه الأسباب دفعت ديبوا ليلاحظ، بعد أن أورد في معجمه عدة تعريفات لمصطلح Modalité ، أنّ مفهوم الجهة يقدم بنفس التعريفات عند جميع اللسانيين ف Buty و Baly و DuBoisيحددون الجهة بمعنى” تعبير عن موقف المتكلم إزاء محتوى كلامه،[13].ويصنفونها إلى جهات وجوب وجهات إمكان.

فالجهة في الدراسات اللسانية في دراستها مقولة مأخوذة من المنطق الجهي الأرسطي[14] وهي تنقسم إلى جهة الوجوب(La nécessité)وجهة الإمكان(La possibilité)[15].وهي مقولة  تدل على مدى مطابقة ما في تصور المتكلم واعتقاده من وجود مقارنة بالكون الخارجي على جهة الوجوب أو جهة الإمكان.ف”هي تعبير عن موقف إدراكي للمتكلم تجاه مضمون كلامه في علاقته بالعالم أن على جهة الوجوب أو على جهة الإمكان.[16]

والحاصل من كل ذلك أن الجهة مصطلح يقصد به تعبير المتكلّم عما يعتقده تجاه وقوع الحدث كالثبات والنفي والتوكيد….ويعتبرها إميل بنفنيست(Emil Benveniste) جهات اعتقاد ذاتية [17].فهي  الأثر الباقي من تحمّل المتكلّم مسؤولية كلامه.

يعرّف لكرلر(Lequerler)الجهة  Modalitéبأنّها تعبير المتكلم عن اعتقاده إزاء محتوى كلامه[18].فالجهة موقف المتكلّم من مضمون كلامه(الحكم)الذي يمكن أن يكون على جهة الإمكان أو على جهة الوجوب.

اذا كان ذلك، كانت الجهة روح الجملة”تختزل تعبير المتكلّم عن موقفه من كلامه[19].وفي هذا المستوى تكون جهات اعتقاد المتكلم تعبير عن المواقف النفسيّة والذهنيّة التي تعيّن موقفه من مضمون كلامه في علاقته بالكون الخارجي.

ما نخلص إليه أنّ هناك تعدّدا في تعريف الجهة في المباحث اللسانية الحديثة.ولئن اقتصرنا على بعضها، فإنّ في البعض الأخر [20]إحالات على الاختلاف ذكرها ديبوا في معجمه.

نتجت عن هذا الاختلاف عدّة تصنيفات للجهة، وهي تصنيفات كانت نتيجة النظر في علاقة المتكلم بالمحتوى القضوي من ناحية، وعلاقته بالمخاطب من ناحية ثانية، وعلاقة المخاطب بما يقوله المتكلم من ناحية ثالثة، ونتيجة لاختلاف اللسانيين في تحليل دلالات الأفعال المساعدة الجهية(Les verbes auxiliaires Modales)وتحليل علاقة الجهة بالمقصود بالقول(illocutionnaire) من ناحية رابعة.ويمكن حصر الجهات في ثلاثة أصناف:

  • الجهة الالتيكية🙁 Alethique)، وهو صنف ورثه الفكر اللساني عن المنطق الجهي، وتعني اعتقاد المتكلم وإدراكه لجهة تعلق مضمون قضية ما بمحمولها إنْ على جهة الوجوب وإنْ جهة الإمكان[21].
  • الجهة المعرفية:( epestémique)، وهو صنف مستحدث يربطه لاينز بالمعرفة والاعتقاد، وتعني تحديد موقف المتكلم من العلاقة الرابطة بين القضية ومحمولها[22].
  • الجهة الإلزامية:(déontique)، وهو صنف مستحدث، يقوم على النظر في موقف المتكلم من علاقة المخاطب بالقضية على جهة الفرض(obligation).ويلاحظ أن الجهة المعرفية تعني(obliger de croire)، بينما تعني الجهة الإلزامية(obliger de faire ) وهي ملاحظة ميز بناء عليها اللسانيون بين الجهات تمييزا معجميا[23].

استند اللسانيون في تصنيف وتفريع الجهة إلى مقياس معجمي تمثل في إسقاط الأفعال المساعدة الجهيّة(les verbes auxiliaires modales)في بداية الجمل.فبحثوا في دلالتي وجبDevoir وأمكن pouvoir، فاختلفت الآراء.ولكن المقياس المعجمي لم يكن مقياسا فاصلا بين حيزات الجهات.وهذا ما جعل باسكال انجيل يصرّح بأنّه” يصعب من وجهة نظر نحوية[24] إعطاء تعريف للجهة”[25]نظرا لعدم قدرة الصرافم التعبير عن الجهة بصورة جلية.ولم تقتصر صعوبات التحديد عن الناحية التصنيفية، وإنما شملت علاقة مقولة الجهة بعدة مصطلحات أخرى منها:

2- الجهة والمظهر والزمان[26]:

اشرنا في بداية هدا الفصل إلى العلاقة الجامعة بين الجهة(Modalité)، والمظهر(Aspect) من ناحية، وعلاقة الجهة بالزمان من ناحية ثانية.وما نتج بسبب الاضطراب من أخطاء انعكست سلبا على بعض الدراسات العربية.وتناولنا لهذه العلاقة ليس بهدف إبراز دور الزمان والمظهر في صياغة الدلالات الزمانية، وإنّما لإبراز علاقة التداخل والتفاعل بين هذين المفهومين ومفهوم الجهة حتى يتسنى ضبط الجهة ضبطا مفهوميا.

ونفترض أنّ الجهة مقولة زمانيّة، وأن الزمان مقولة جهيّة.وافتراضنا هذا يقوم على حدوس أوليّة تتأسس على اعتبار أن تحديد النحاة لجهات اعتقاد المتكلم خضع إلى تقسيم الفعل حسب مقياس الزمان أو المظهر الزماني إلى منقض وغير منقض انطلاقا من لحظة التلفظ، وهو الآن:زمان القول[27].ونجد صدى لهده الافتراضات في الدراسات اللسانية من خلال الاختلاف بين من يعتبر الجهة مقولة زمانية ومن يعتبر الزمان مقولة جهية.وقد عرض كل من بلمار ولاينز لهذه القضية، فعقد لاينز فصلا كاملا في كتابه الدلالة اللسانية عنوْن له ب”الزمان النحوي باعتباره جهة”(Le temps grammatical comme modalité).

يماثل التداخل بين الزمان والجهة تداخلا بين المظهر والجهة، فالأحياز الزمانية تصنّف وفق مقولتيْ البعدية والقبلية.وتعتبر بعض الآراء اللسانية أنّ الماضي غير واقع مرتبط بنقطة زمانية بعيدة نسبيا، والمستقبل أكثر جهية.وهو ما يكشف تحكّم الجهة في مستوى من المستويات في التقسيم الزماني ذلك أنّ الزمان بإبعاده الثلاثة يدخل ضمن دلالتي الوجوب والإمكان المنطقيين[28].ولعل هذا الموقف ينسجم مع تقسيم النحاة الجهة إلى واجب وممكن، وهو تقسيم احتكم في مستوى من مستوياته الى المظهر الزماني في انقضائه وعدم انقضائه.وبذلك يكون الزمان محدّدا في إبعاده الثلاثة باعتبارات جهية[29].

إنّ التمييز بين الزمان والجهة هو تمييز بين مستويات التحليل، ولحل مشكلة العلاقة بين الجهة والمظهر من ناحية، والعلاقة بين الجهة والزمان من ناحية أخرى نحتكم إلى النظرية التواجدية الحدثية(الشريف،2002).وهي نظرية تعتبر الجهة مقولة الكون الاعتقادي، وفي المقابل يكون المظهر والزمان نتاجيْ العلاقة بين بنية الكون الاعتقادي وبنية الكون الإحالي.وهذا ما يجعل الجهة مسؤولية عن تشكّل الدلالات الزمانية والمظهرية في المستوى المجرد بواسطة القيم  الشحنية التواجدية الإنشائية:الوجوب والإمكان.وبما أنّ الجهة تتحكم في إنتاج الدلالات الزمانية والمظهرية قي المستوى المجرد، فإنها مسؤولية أيضا عن توجيه تلك الدلالات في المستوى الإنجازيّ.

نتج عن هذه الأسبقية سيطرة الجهة باعتبارها مقولة الكون الاعتقادي على المظهر المسيطر بدوره على الزمان، فالوجوب والإمكان ينتجان الزمان وينتجان المظهر.فلئن كان المظهر زمانا متحجرا(Fossile)، فإنّه كذلك جهة متحجرة.ولا تعني هذه السيطرة انفصال المقولات في المستوى المجرّد، وإنّما الفرق موكول إلى مستويات التحليل النحويّ.وإنْ كنّا لا نساير هذا الفصل، وإنّما نعتبر من منطلق تحليلات نحاتنا أن المظهر هو الزمان[30]، وهو محدّد لجهات اعتقاد المتكلم في المستوى الإنجازيّ.

ما يمكن استنتاجه من طرح العلاقة بين الجهة والمظهر والزمان أنّ هده المفاهيم تحمل كلّها الدلالات الزمانية وأنّ التمييز بينها تمييز بين مستويات التحليل والمعالجة.فالجهة مستوى مقوليّ شحنيّ تواجديّ أساسه الإمكان والوجوب.وهو مستوى يتحكم في مستوى الإنجاز الذي تختلط فيه دلالات الزمان والمظهر بالدلالات الجهية.ويطرح هذا التداخل بين هذه المفاهيم اشكالية اخرى أثيرت في الدراسات اللسانية وهي علاقة الجهة بالصيغة.

 3- الجهة والصيغة: 

أحدث التقارب الاشتقاقي والمعجمي بين الصيغة(Mode)والجهة(Modalité) اختلافا بين اللسانيين  في تعريف الصيغة.وأورد ديبوا(Dubois) في معجمه اللساني هذه التعريفات، فقدّم تعريفا أول للصيغة بكونها”مقولة نحوية ترتبط عادة بالفعل و تترجم نمط التواصل المنشئ من قبل المتكلم بينه وبين المخاطب”[31]، وتعريفا ثانيا يتماهى فيه مفهوم الصيغة مع مفهوم الجهة ً”تفصل الصيغة جهات المنطق والمحمول جوازا واحتمالا ,وجوبا وإمكانا[32].وعقد لاينز فصلين في كتابه ًالدلالة اللسانية لتحديد العلاقة بين الجهة والصيغة، فاعتبر الصيغة(Mode)شكلا تصريفيا تفرغ فيه الدلالات الجهية، فهي مقولة مرتبطة بالقوة المقصودة بالقول تتماهى مع الأفعال المساعدة الجهية.أمّا الجهة، فهي مقولة نحوية ، وتكون الصيغة إنجازا تصريفيّا للجهة.ويمكن التمثيل لذلك تصريفيا:

  • الشكل التصريفي الإعرابي المجرد:فعل /يفعل:جهة الوجوب.
  • الشكل التصريفي الإعرابي المجرد:يفعل/افعل:جهة الإمكان[33]

فالصيغة إمكان من الإمكانات الإنجازية للجهة تنضاف إليها الحروف والمصادر المتصلة بالأفعال[34].

أدى هذا التداخل بين الجهة والصيغة إلى اضطراب في كثير من الدراسات اللسانية.ويعود ذلك في نظرنا الي عدم التمييز بين مستويات التحليل والمعالجة.فجميع الدراسات اللسانية منذ سورل تفصل بين قوة القول ومضمون القول أو بين جهة الاعتقاد والمضمون وهو ما يطرح علاقة الجهة بالعمل اللغوي.

4- الجهة والعمل اللغويّ:

وسم الدراسات اللسانية تداخل بين مفهوم الجهة ومفهوم العمل اللغوي(acte de langage)، فقد كانت العلاقة بينهما سببا لنقاشات ونقود كثيرة.والراجح أن الاختلاف يعود الى علاقة كل منهما بالمحتوى القضوي أو موضع الإحالة.ويعود تعريف العمل اللغويّ إلى أوستين في محاضرته الثامنة من كتابه”كيف نصنع الأشياء بالكلمات”[35]الذي عبر عنه بقوله”أن نقول شيئا ما هو أن نفعل شيئا ما”[36].ودقق سيرل هذا الحد بقوله”إنّ العمل اللغويّ هو إنتاج جملة نمطية أو القائها في ظروف معينة”[37]، فاعتبر العمل اللغويّ هو الوحدات الدنيا للتواصل اللساني بينما تكون الجهة من حيث الحدّ هي تعبير عن جهات اعتقاد المتكلم في كلامه.

وقد أرجع بلمار الفرق بين الجهة والعمل اللغوي إلى التمييز الذي أقامه أوستين بين الأفعال التقريرية(Les verbes constatifs)والأفعال الإنشائية(Les verbes performatifs)، فاعتبر الجهة تختلف عن العمل اللغوي.فإذا كانت الجهة تعني تعبير المتكلم عن موقفه الإدراكي من مضمون كلامه، فإنّ العمل اللغويّ هو فعل شيء ما، ف”الفرق واضح وكائن بين موقف المتكلم وفعله اللغوي[38].

نفترض أنّ موقف المتكلم وإدراكه للكون الخارجي هو الذي يتحكّم في إنجاز العمل اللغويّ فقول القائل:

مثال: أتبحث في مفهوم الجهة ؟

*القضية: البحث في مفهوم الجهة.

*العمل اللغويّ: ويتمثل في الاستفهام الذي تعبر عنه في البنية النحوية الهمزة.

*الجهة: ننظر اليها انطلاقا من متكلّم منشئ للقول ومخاطب متقبل له:

– متكلم: إمكان البحث عن مفهوم الجهة في تصوّره، وهو ما نصوغه في:أتبحث في مفهوم الجهة أو لا تبحث ؟والقيم الشحنية [+/-] هي التي تنتج  دلالة الإمكان في ذهن المتكلم[39].

مخاطب:وجوب ذلك في تصوّر المخاطب إن على جهة الوجوب الموجب أو الوجوب السالب، وهو ما نعبر عنه ب:أبحث عن مفهوم الجهة ولا أبحث.ويمكن التمثيل لذلك بالرمز الشحني {+/-}.

وإذا كان ذلك كانت الجهة أكثر تجريدا من الأعمال اللغوية، فهي مقولة الكون الاعتقادي على خلاف العمل اللغوي الذي يرتبط بإنجاز البنية النحوية.وإذا سلمنا بأنّ العمل اللغوي إنجاز للبنية النحوية أمكننا القول إنّ العمل اللغوي إنجاز للجهة المتحكمة في البنية النحوية المجردة المشحونة بواسطة قيم الوجوب والإمكان باعتبارهما قيمتين شحنيتين تميزان في مستوى الإنجاز بين الأعمال الواجبة والأعمال غير الواجبة.وبهذا التأويل تكون الجهة متحكمة في إنتاج العمل اللغوي.

عمدنا إلى هذا الفصل للتقريب بين الجهة والعمل اللغويّ، وإنْ واقع الممارسة اللسانية يفترض استقلال كل بحث بخصائص متمايزة”فالمبحث غير المبحث وإنْ تشابها”[40].ونرجّح أنّ الفصل يدخل ضمن التبويب المنهجي، وهو ما يرفضه واقع الممارسة على النصوص.

  • نخلُص إلى :

– إنّ مبحث الجهة مبحث إشكاليّ تتجاذبه عديد المباحث، وتتداخل معه عديد القضايا التي نظرنا في بعضها بإيجاز فرضته علينا مقتضيات البحث.فعرفنا الجهة بكونها” تعبيرا عن جهات اعتقاد المتكلم في مضمون كلامه”.وحددنا علاقتها بمفهومي المظهر والزمان، وبحثنا علاقتها بمفهوم العمل اللغوي.

– الجهة جهات اعتقاد المتكلم في مضمون كلامه، فهي تعبير عن المواقف الذهنية والنفسية التي يتخذها المتكلم من ملفوظة في علاقته بحالة الأشياء في الكون الخارجي إنْ على جهة الإمكان وإنْ على جهة الوجوب.

– يمكن القول إنّ التناول اللساني لمقولة الجهة تناول معجميّ، وهو ما دفع باسكال إلى الإقرار بصعوبة وجود مقياس نحويّ تركيبيّ لتحديد الجهة، فالصرافم(Morphemes)عاجزة عنه التعبير عن الدلالات الجهيّة.وهو ما جعل المقاربة اللسانية لمقولة الجهة مقاربة عاجزة عن استيعاب مختلف القضايا التي حاولنا أثارتها.ومرجع ذلك أنّ اللسانيين اعتمدوا في بحث مقولة الجهة المقياس المعجمي أولا، والمقياس المقامي ثانيا، ولم ينظروا في الجهة باعتبارها مقولة نحويّة إعرابية.

– تناول اللسانيين لمقولة الجهة والتوسيعات التي أحدثوها لم يخف انشداد الفكر اللساني إلى الفكر المنطقي الأرسطي وتكراره في العمق النظري لمقولاته.وهو ما انعكس سلبا في بعض الدراسات التي فصلت مقولة الجهة عن البنية النحوية وهو سجن لأصحابها في زاوية نظر معجمية تتعلق بالأفعال المساعدة الجهية، وهم في ذلك يخرجون الدلالة الجهيّة من النحو.

تعريف الجهة عند المناطقة والفلاسفة والنحاة

تمهيد: أرجأنا النظر في تحديد الجهة عند الفلاسفة والمناطقة والنحاة بعد نظرنا في تبلور المفهوم ومعالجة مسائله في الدرس اللساني الحديث لاعتقادنا وجود تواصل منهجي ونظري بين مقاربة النحاة وأطروحات الفلاسفة.

1- الجهة وقضاياها في الدرس المنطقي و الفلسفي:

يعتبر مبحث الجهة من أهم مباحث الدرس المنطقي والفلسفي قديما لارتباطه بطابع القضايا.وقد اعتنى الفلاسفة والمناطقة العرب بتحديد مفهوم الجهة من منطلق التأثر بالمنطق الأرسطي وما ترجموه من مقولاته الصورية التي تقوم على اعتبار القضية تتضمن موضوعا ومحمولا أو مسندا ومسندا إليه.فقد كان اهتمام أرسطو منصبا على دراسة الجمل الخبرية التي تستعمل لتقرير القيمة الصدقية، يقول ابن سينا “هذا الصنف من التراكيب هو التركيب الخبريّ وهو الذي يقال لقائله إنه صادق فيما قاله أو كاذب”[41]، وتقابلها التراكيب التي اعتبرها أرسطو خارجة عن مجال المنطق الجهي، وهي تراكيب لا تحتمل القيمة الصدقيّة “مثل الاستفهام والالتماس والتمني والترجي والتعجّب ونحو ذلك، فلا يقال لقائله إنه صادق أو كاذب”[42].

فالكلام في تصوّر ابن سينا صنفان:

– صنف ما احتمل القيمة الصدقية أي ما جاز أن يقال لقائله إنّه صادق أو كاذب، وهو الخبر.

– صنف مالا يحتمل القيمة الصدقية أي ما لا يجوز أن”يقال لشيء منها إنّه جازم كما لا يقال إنّه صادق أو إنّه كاذب”[43].

يقوم هذا التصور على إبراز وظيفة اللغة في الدرس المنطقي مند أرسطو، وهي:

  • وظيفة خبرية وتصديقية لحالة الأشياء في الكون الخارجي، وتكون وظيفة اللغة مجرد نقل للوقائع ووصف للأحداث.وتعبر عن هذه الوظيفة الجمل الخبريّة المتضمنة لأقوال جازمة تطلق على جميع”ما هو صادق أو كاذب”[44].ويشمل هذا النوع قضايا يمكن الاستدلال عليها واختبارها منطقيا، لأنّ العلاقة بين المتكلم و ملفوظه تكون علاقة موضوعية.
  • وظيفة إنشائية إبداعيّة تعبّر عنها التراكيب التي لا تحتمل القيمة الصدقيّة، ويختلط في هذا النوع إنجاز الأقوال بجهات اعتقاد المتكلم.

فالتصور الأرسطي قائم على الفصل بين القضايا الصورية المطلقة التي تمثلها الجمل الخبرية والقضايا الجهية التي ترتبط بجهات اعتقاد المتكلّم، وتقوم على تعيين النسبة بين الموضوع والمحمول على جهة ضروريتها أو عدم ضروريتها.ويسمّى هذا التحديد لنوع العلاقة”جهة”.فالجهة هي التي يعبّر من خلالها المتكلم عن موقفه من النسبة في الكلام بين موضوع ومحمول على جهة إمكانها أو امتناعها أو وجوبها.وترتبط هذه الكيفية بالتصوّر والاعتقاد، وحكم العقل الصادر عن المتكلّم في علاقته بالكون الخارجي”لأنّه إنّما قصد بها أن تكون دلالتها مطابقة للموجود، والموجود قسمان إمّا بالقوة، وإمّا بالفعل، والضروري يقال على ما بالفعل والممكن يقال على ما بالقوة”[45].

إذا كان ذلك كانت الجهة في تصور المناطقة حكم المتكلم على المضمون القضوي في علاقته بالموجود في الواقع.فهي كل تحوير لقضية ما بعبارة ضروري أو ممكن أو ممتنع، يقول الفارابي”الجهة هي اللفظة التي تقرن بمحمول القضية فتدل على كيفية وجود محمولها لموضوعها مثل قولنا ممكن وضروري و محتمل و واجب”[46].

ما يلاحظ في تصور أرسطو والفلاسفة العرب عموما لمقولة الجهة أنها تتفرع إلى جهة وجوب وجهة إمكان، وأنّها تنتفي في الجمل الخبريّة.وهو ما يتعارض في نظرنا مع تصور نحاتنا الذين اعتبروا القول الخبري ضربا أوّل من الضروب المؤسسة لمقولة الجهة.ونرجع الاختلاف إلى اختلاف في المنطلقات.فلئن ارتبط الدرس المنطقي بالقيمة الصدقية في القضايا مستندا في أغلب الأحيان إلى مقياس معجميّ، فإنّ نحاتنا ربطوا مفهوم الجهة بمبحث الإعراب والعمل.فاعتبروا الدلالة الجهية دلالة إعرابية، فهي كل”ما يعبّر عن رأي المتكلّم ومواقفه وحالته الذهنيّة أو الشعوريّة أو الإراديّة بإزاء حالة الأشياء في الكون الخارجي”[47].                                                        

إنّ ارتباط الجهة بدراسة القضايا في الدرس المنطقي جعلها موضوعية تختص بالعلاقات القائمة بين القضايا بينما اعتبرها كانط ذاتية “لا تتعلق بمضمون الحكم بل بعلاقة مع بنية معرفتنا”[48].وهو في ذلك يربط الجهة بكل ما هو عرفاني في بنية العقل، مما يجعلها ذاتية.

ولعل الاختلاف بين موضوعية الجهة وذاتيتها يعود إلى اختلاف في مستويات التحليل.ومعنى ذلك أنّه تكون الجهة موضوعية في المستوى النحوي أي مستوى المقولات باعتبارها مقولة الكون الاعتقادي، وتكون ذاتية في مستوى الإنجاز.وهو مستوى تتدخّل الذاتية الآنية للمتكلم المقامي في إنجازه أقوال يعبّر بها عن جهات اعتقاده فيما يقوله في علاقته بحالة الأشياء في الكون الخارجي.

وبهذا التأويل، نعتقد أنّنا فسّرنا الاختلاف الظاهر بين كون الجهة ذاتية وكونها موضوعيّة إلى استرسال، وإنّما قصور المنهج الذي لم يراع مستويات التحليل أدى إلى هذا الاضطراب.

ما نستخلصه أنّ دراسة الفلاسفة و المناطقة لمقولة الجهة دراسة استندت إلى مقياس معجميّ، فأقصت كون الجمل الخبرية من دراسة الدلالة الجهية.وهو ما قدرنا أنّه  يتعارض مع تصور نحاتنا.

2 – الجهة عند النحاة:

ننظر في مفهوم الجهة عند النحاة معتمدين المدونة التراثية فيما يخصّ قضايا العمل النحوي، وما يطرحه من عاملية المتكلم وإنشائه للأبنية ليعبر بها عن مقاصده وأغراضه.ونستثمر بعض التصورات التي قاربت الدلالة مقاربة نحويّة إعرابيّة[49].

على أنّ البحث في علاقة الجهة بمبحث الإعراب والعمل وجهتنا إليه بعض الحدوس الأولية التي نتجت عن فهمنا لإشارات نحاتنا لما نعتقد أنه دراسة للجهة من منطلق إعرابي وهي حدوس مثلنا لها بمستويات فرعيّة من قبيل:

3- الإعراب وعاملية المتكلم :

انبنت النظرية النحوية العربية على كون المتكلّم هو المنشئ للأبنية النحوية بعقده للرابطة بين مسند ومسند اليه[50].فالعلاقة بين مسند ومسند إليه هي العمل النحويّ الإعرابيّ، لأنّهما أصل المعنى.فالمتكلم هو العامل”الموجد لعلامات هده المعاني”[51]، والمحدث لها في الاسم.بذلك يكون العمل الإعرابيّ النحوي من صنيعة المتكلم العامل في بنية معمولة موسومة بعلامات لا تعدو أن تكون إمارات على فعله بواسطة الإعراب.

وإذا كان ذلك، كانت البنية النحوية علامة على المتكلم المنشئ، “وكان العمل النحويّ من عمل المتكلم وأنّ ظواهر العمل كلها صور من دور المتكلم”[52]المنشئ للمعاني بواسطة تركيب الألفاظ، والمعرب بها عن مقاصده التي لا تعدو أن تكون اعتقاداته.ف”الألفاظ تنوب عن سابق في ذهن المتكلم، وفكره في صور مجردة”[53].فما يوجد في ذهن المتكلم يظهر في البنية بواسطة الإعراب باعتباره”الإبانة عن المعاني بالألفاظ”[54].وهذا ما يجعل الإعراب معنى ويصيّر الألفاظ وما يعتورها حركات أثرا للإعراب باعتباره كاشفا لموقف المتكلم.

إنّ في اعتبار الإعراب معنى، ما يجعله يتجاوز وظيفته الشكلية نحو وظيفة دلاليّة تؤهله لكشف للمعنى وإزالة لقناع الاعتقاد الكامن بالقوة في البنية النحوية. ذلك أنّه”إذا كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب”[55]كاشفا لها.

وإذا كان الإعراب إنشاء المتكلم للبنية النحوية ليعبر بها عن مقاصده وأغراضه التي لا تعدو ان تكون اعتقاداته وإراداته، فإنّ ذلك ينزّل المتكلم في البنية في  موضع قار.فتكون كل بنية نحويّة صورة عن المتكلم منشئها الذي ينطلق من تصور في فكره وسمناه بمفهوم الاعتقاد “إذ يوجد في الذهن اعتقاد شيء ما أو اعتقاد ضدّه او اعتقاد شيء ما واعتقاد سلبه[56].ويمثّل لذلك بالرسم التالي:

يكون كل إنشاء للبنية من قبل المتكلم ناتجا عن اعتقاد يوجّه الإنشاء العامل في الإحالة ولكن ما الذي يكشف الاعتقاد في الإنجاز؟

  • توجيه الاعتقاد للإعراب:

 اعتمادا على منوال التشارط والاسترسال[1] تقوم البنية المجرّدة على بنية عاملة (بنية الكون الاعتقادي) وبنية معمولة (بنية الإحالة) التي تتشارط وتسترسل مع البنية الأولى بصورة إذا  وسمت البنية النحوية المجردة باللفظ تنزاح بنية الكون الاعتقادي عن حيزاتها وتدخل حيزات البنية الإحالية المرجعية.وبذلك تصبح بنية الإحالة بنية اعتقادية تخضع في قوانينها العامة الى بنية اعتقادية جديدة في قانون متكرر باستمرار.وتكون العلاقة بين الكون الاعتقادي، والإنشاء صورة منه إذ يتعلق الإنشاء”بالاعتقاد تعلق الإحالة بالإنشاء”[2]، والكون الإحالي، وعلاقة الإنشاء بالاعتقاد قائمة على التعلّق الشرطي التواجدي.وهو ما نمثّل له بالمنوال التالي:

اذا كان ذلك، فالبنية النحوية تتكوّن من محلات وظيفية، هي محل عامل ومحل معمول “ورتبة العامل قبل المعمول”[1].ويكون محل العامل، هو موضع فعل المتكلم المتصدّر للتركيب، وهو محل ينخزل إليه ما في نفسه من اعتقاد يتوزع بين: الوجوب والإمكان. فالمحل الإنشائي الاعتقادي هو محل اعتقاد المتكلم المنشئ للأبنية ليعبر بها عن أغراضه ومقاصده.ويكون الإعراب كاشفا عن أثر الاعتقاد في البنية النحوية، فهو إنجاز للاعتقاد المتحكم في البنية النحوية.

بهذا يكيّف الإعراب الاعتقاد، ويصرفه في البنية النحوية المنجزة حسب مواقف المتكلم وتصوراته الذهنية وحالاته النفسية.وهي حالات عرفانيّة تظهر في الألفاظ باعتبارها ظلال المعنى حركات إعرابيّة تعبّر عن اعتقاد فيما استقر وجوده في التصوّر أو عن عدم اعتقاد الذي يتعين عدم استقرار وثبوت الوجود في التصور”إذ البنية النحوية تحمل محليّا في الإعراب ما به تتصل بالكون الخارجي عن طريق ما نعتقد أنه في الوجود والعدم”[2].

يصيّر هذا الموقف الاعتقاد وعاء يختزل الكون الخارجي في التصوّر، فيعين صلة البنية النحوية بحالة الأشياء في الكون الخارجي” فتكون معاني الكلمات تمثلات ذهنية مستنبطة تعبر عن البنية التصورية”[3]، وهذا يجعل كل إنشاء للبنية اعتقادا ما.                                                                                                                                                

ولمّا كان الإعراب هو كل إنشاء نحويّ للبنية الدلالية المجرّدة، كان الاعتقاد مسيّرا للإعراب، وكان الإعراب كاشفا لأثر الاعتقاد في البنية النحويّة المنجزة.فيكون كل توجيه للإعراب في البنية النحوية انطلاقا من موضع العامل، هو توجيه لدلالة الاعتقاد في تلك البنية، ويترتّب عن ذلك كون الوسم اللفظي إنجازا للحالات الاعتقاديّة.

بهذا التحليل نفسّر كون الاعتقاد يوجّه الإعراب، ويسيّره في الأبنية، وكون الإعراب هو الأثر الكاشف لاعتقاد المتكلّم في البنية النحوية.وبذلك يكون الاعتقاد ناتجا عن تعامل مستويات النظام النحويّ بكيفيّة تصّب كل المعاني التي يختزنها في القول لتكون كاشفة لما يريده المتكلم من أغراض ومقاصد.

إذا كان ذلك كذلك، كان الاعتقاد مسيرا للبنية النحوية، فهو بنية عاملة في بنية معمولة يتصرف في مستوى الإنجاز لدى التقاط البنية للمقولات المعجمية والتصريفية والإعرابية اعتقاد وجوب أو عدم اعتقاد أي الإمكان.

هذا ما يجعل البنية النحوية اختزالا لحالة اعتقادية عامة تتصرف عند الإنجاز اعتقادات ذاتية.فتكون كل بنية نحوية صورة عن النفس، وصورة عن بنية الأشياء في العالم الخارجي.لهذا كان كل إنشاء للبنية اعتقاد ما بكونه”خلاصة شحنية لما رسخ في ذهن الإنسان من أثر تعامله التصوري مع الكون”[4]، يمثل حالات عرفانية متحكمة في الإنشاء المتحكم بدوره في الإحالة.وتظهر هذه الحالات العرفانيّة في شكل قيم شحنية موجبة وسالبة تختلف باختلاف اعتقادات المتكلّم، وتولد في البنية دلالتيْ الواجب وغير الواجب.

نستنتج أنّ الاعتقاد علاقة تصوّرية بين المتكلم والكون الخارجي، بل إنّه التمثل الإدراكي لحالة الأشياء في الكون.يعبّر عن هذا الإدراك في مستوى البنية النحوية المنجزة الإعراب باعتباره الأثر المتبقي. فإذا كان الاعتقاد موجودا في البنية النحوية المجردة بالقوة، فإنّ الإعراب هو الذي يوجده بالفعل، وذلك  من خلال وسم البنية النحوية بما يساير اعتقاد المتكلم ف”الإعراب في حقيقته الدلالية يتصل بالمتكلم الذي تظهر أثار فعله في الكلام”[5]وأثار فعله هي الحركات الإعرابية. 

إذا كان ذلك، كان للاعتقاد محل رئيسي في محلات البنية النحوية، فهو الذي يكسب الإنشاء العامل في الإحالة سمة تمييزية عبّر عنها نحاتنا بالعلامة الإعرابية باعتبارها حالة من حالات المعبرة عن جهات اعتقاد المتكلم، وهو ما يجعل العلامة الإعرابيّة في هذا المستوى وسما لفظيّا”للعلاقة بين الإنشاء والاعتقاد”[6]وترد إشارات المبرّد مدعّمة ما ذهبنا اليه من خلال العلامة الإعرابيّة.


للاطلاع على الجزء الثاني من هذه الدراسة


[1]المبرّد ، المقتضب، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، بيروت، عالم الكتب،1963.

[2]سيبويه،  الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، القاهرة، الطبعة الثالثة،1988.

[3]الاستراباذي ، شرح الرضي عن الكافية، تحقيق يوسف حسن عمر، منشورات جامعة قار يونس،1978.

[4]الجرجاني ، دلائل الإعجاز في علم المعاني، تحقيق محمد عبده ومحمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت لبنان،1982.

[5] – محمد صلاح الدين الشريف، الشرط والإنشاء النحوي للكون، جامعة منوبة، منشورات الأداب، منوبة، سلسلة الإنسانيات، المجلّد 16، تونس،2002،.

[6]خليل أحمد خليل ، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلّد الثاني، منشورات عويدات، بيروت،1996، مقال “جهة، كيفية، كيف “Modalité / Modality  .

[7] – نفسه

[8]حسّان (تمّام)،”اللغة العربية معناها ومبناها، نشر وتوزيع عالم الكتب القاهرة،1998،263،مناهج البحث اللغة، الدار البيضاء،1979، 245

[9]Le Querler (N)” Typologie de Modalité, Press universitaires de Cean France, 1996.

[10]Dubois, dictionnaire linguistique,1973, 321.

[11] – الفاسي الفهري، البناء الموازي نظرية في بناء الكلمة والجملة،,دار توبقال للنشر,الدار البيضاء,الطبعة الأولى،1986.

[12] – روبير بلانشي، المنطق وتاريخه من أرسطو حتى راسل، ترجمة خليل أحمد خليل، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان.

[13] – Dubois ,p20.

[14] -john Lyons, sémantique linguistique, trad, française ; Larousse, 1980

[15] – lynons,406.

[16] – lynons,406

[17] – Emil Benveniste, »problèmes de linguistique génèrale II »,Edi céres-Edi. Gallemard,1995,p74.

[18] – Lequerler,1996 ,P50.

[19] – Lequerler,1996 ,P51

1 انظر المراجع التالية:

-Communication Eddy (Roulet : V : Modalité et illocution(

-Moshler (j) et Reboul (A), dictionnaire Encyclopédique

-Bally (CH) linguistique génèrale et linguistique français

[21] -Lynos,1980 ,410.

[22] – Lynos,1980 ,412.

[23] -Moschler,1994.

[24] – إنّ الوجهة التي قصدها باسكال انجيل بالنحوية هي الدراسة المعجمية.

[25] – Paskal, Enyclopidia, universatis, cor, 15 Ed. Paris.SA, 1995,p509.

[26] – تناول الشريف هذه القضية – ضمنيا – في بحثه (2002) وربطها بمفهوم الإنشاء.ونحن نعتمد نظريته الحدثية التواجدية في قادم التحليل

[27] – الكتاب،1،ص12، المقتضب، 4،ص326.

[28] – Lyons ,1980,428.

[29] -Palmer,1986,243.

[30] – أشار الشريف إلى هذه النقطة عندما اعتبر بناء على تحليلات غيوم أنّ الفصل بين الزمان والمظهر فصل بين البنية النحوية الإعرابية المجردّة والأبنية النحوية المنجزة واخراج للدلالة عن مدار البنية النحوية وانتهى إلى أنّ المظهر هو الزمان عند نحاتنا القدامى وهو ما عبّر عنه ب”المظهر الزماني”

[31] -Dubois,1973,321.

[32] – Dubois,1973,321.

[33] -Bannour Abderrazek, »semi Auxilliaires et Auxilliaires Modaux » certificat Di Aptitude a la recherche Faculte de lettres de Tunisie, 1979.

[34] – Palmer,1996,240.

[35] – Austin (J.L), « Quand dire c’est faire » Paris, ED, du Seuil,1970.

[36] -Austin,1970,p107.

[37] – SEARLE (jhon), (1972), les actes de langages, Essai de philosophie du langage, Paris collection savoir Hermann,1972,p52.

[38] -Palmer,1986,p245.

[39] -1 [+-] شكل من الأشكال الرمزية التمثيلية التي اعتمدها الشريف وتعني الإمكان ويعبر عن الوجوب ب{+-} الوجوب الموجب والوجوب السالب

[40]– شكري المبخوت،”عمل النفي وخصائصه الدلالية في العربية، بحث لنيل شهادة الدكتوراه دولة في اللغة العربية وآدابها، جامعة منوبة، كلية الآداب منوبة، تونس،2001،ص130.

[41]– ابن سينا، الإشارات والتنبيهات. شرح: نصير الدين الطوسي تحقيق: الدكتور سليمان دنيا الناشر: دار المعارف الطبعة: الثالثة ،2012،صص222-223.

[42] – السابق.

[43]– ابن سينا”كتاب الشفاء”،ت الأب قنواتي ومحمود الخضيري وفؤاد الإهواني،نشر المعارف العمومية.،1952،ص32.

[44] – السابق.

[45] – ابن رشد،  تلخيص كتاب العبارة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،1986،ص105.

[46] -السابق.

[47] – مبخوت،2001،ص 414

[48] – موسوعة لالاند ,ج2 ص 819

[49] – نعتمد أعمال:

المنصف عاشور ، ظاهرة الاسم في التفكير النحوي: بحث في مقولة الاسمية بين التمام والنقصان، منشورات كلية الآداب، منوبة،1999.

ميلاد، الإنشاء بين التركيب والدلالة دراسة نحوية تداولية،ضمن سلسلة لسانيات، المجلّد 15، جامعة منوبة، كلية الآداب منوبة، المؤسسة العربية للتوزيع، تونس،2001.

 الشريف،”الشرط والإنشاء النحوي للكون، جامعة منوبة، منشورات الأداب، منوبة، سلسلة الإنسانيات، المجلّد 16، تونس. ،2002.

والمبخوت  عمل النفي وخصائصه الدلالية في العربية، بحث لنيل شهادة الدكتوراه دولة في اللغة العربية وآدابها، جامعة منوبة، كلية الآداب منوبة، تونس،2001.

[50] – سيبويه،الكتاب،1ج،ص12.

[51] – الاستراباذي،شرح الكافية ج1، ص 60.

[52] – الشريف ,2002،ج1 , ص 170.

[53] – عاشور1999 , ص 269

[54] – ابن جني،”الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت لبنان (د.ت)،ج1،ص35

[55] –  الجرجاني , دلائل الإعجاز ,ص23,24

[56]– موسوعة مصطلحات علم المنطق عند العرب ،مجموعة من الباحثين مكتبة لبنان،ناشرون، الطبعة الأولى،1996،ص77.

لطفي الشيباني

لطفي الشيباني: باحث تونسي المعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، حاصل على الماجستير في اللسانيات التداولية حول "الأعمال اللغوية". أنهيت دكتوراه دولة في "اللسانيات التداولية والعرفانية" موضوعُها "ضمنيات القول".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى