سرديات

الروايـة والسياسة

 

إن إثارة موضوع الرواية والسياسة قد يفضي بنا إلى النقاشات التي كانت سائدة في عقدي الستينات والسبعينات من الألفية الثانية. ومن ضمنها النقاش المحتدم بين لوسيان كولدمان وجاك لينهارت من جهة وألان روب غرييه من جهة ثانية. حاكم لوسيان كولدمان وجاك لينهارت رواية ” الغيرة” من منظور إيديولوجي. اعتبرها الأول رواية مشيئة ومجردة من الطابع الإنساني، وتعامل معها الثاني كما لو كانت تمثيلا للرؤية الاستعمارية للعام. استبعد ألان روب غرييه ما قالاه في حق روايته مبرزا أنه ألفها سعيا إلى التعبير عن ” الهوى العصي” و ” ووفرة المواد الاستهلاكية في المجتمع”.ما يهمني من إثارة هذا السجال النقدي  هو التدليل على ملاءمة طموح الآن روب غرييه في تحاشي ” المفاهيم المتجاوزة” من قبيل الالتزام ورواية الأطروحة، و صياغة تصور أدبي جديد قادر على مواكبة متطلبات المجتمع الجديد وإرغاما ته.

 لقد حرض ” الربيع العربي” على إثارة جملة من القضايا التي تهم مهمة المثقف بصفة عامة والجدوى من الرواية بصفة خاصة. وهو ما أدى إلى بعث كثير من المفاهيم من مراقدها على نحو المثقف العضوي، وخيانة المثقفين، والأدب الملتزم  حرصا على حفز المثقف على أداء دوره النضالي والمشاركة في الحياة السياسية. وهكذا لاحظنا – علاوة على ظهور فئات جديدة تحاول أن تتقمص المثقف العضوي- صدور روايات يزعم فيها أصحابها أنهم تنبأوا بالثورة و الإطاحة برموز الاستبداد، وأن ما دونوه  يقدم “صورة صادقة” عما يقع في الساحات العمومية من حراك وغليان اجتماعيين..

إن أدبية النص لا تقاس بالتزام المبدع أو انتمائه السياسي أو حسن نواياه، وإنما بالشروط  والسمات الفنية التي تصدر عن المؤسسة الأدبية. وفي هذا الصدد يستحسن أن نستبدل سؤال ” كيف يشخص الروائي الواقع؟” بسؤال آخر أكثر ملاءمة ” بأي طريقة يشخصه؟”. يقتضي السؤال الثاني من الروائي أن يخلق ” مسافة نقدية” مع الواقع حتى يتمكن من إعادة تمثيله وتحبيكه، ومساءلته لفهم أسراره المغفية و إضاءة جوانبه الداجية، وتخيل مواطنة تخييلية تتوافر فيها سبل العيش الكريم. ومما يدخل في جملة هذا المواطنة ( أسوة بالمواطنة الافتراضية على شبكة الانترنيت) نذكر أساسا: دمقرطة اللغة، والرد بالكتابة، والمؤشرات التخييلية، والكلية الخفية، والمصالحة التاريخية مع الذات والآخر. ويمكن في هذا الصدد أن نرصد ملامح هذه المواطنة في عينة من الروايات العربية التي استطاعت أن  تعيد تمثيل الواقع بطريقة مضادة سعيا إلى استيعاب تحولاته الاجتماعية ونزاعاته وخلافاته السياسية في منأى عن الصخب الإيديولوجي والقوالب الفكرية المسكوكة.

يتسم عنوان رواية ” ذات“(1992) لصنع الله إبراهيم بالصبغة الإيحائية. فهو اسم امرأة موظفة في أرشيف صحيفة عانت الأمرين من انتقال مصر من النظام الاشتراكي إلى النظام الليبرالي لعدم قدرتها على مواكبة مسيرة الهدم والبناء (توفير مصروف يلبي حاجات الأسرة بسبب غلاء المعيشة ).

تتباهى أمام زميلاتها في العمل بقدراتها الفائقة على تدبير شؤون بيتها وتأثيثه بمعدات ولوازم فاخرة ، لكنها لما تعود إليه تدخل في مواجهة عنيفة مع زوجها عبد المجيد لعدم استجابته لطلباتها الملحة لقلة موارده المالية. و

ذات، من جهة أخرى، هي مصر التي دخلت عهد الخصخصة التي أسهمت في تعميق الفجوات بين الطبقات الاجتماعية وتفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وتهريب الأموال إلى الخارج، وتبذير المال العام، وانتشار برامج البث المعتادة (الشائعات-الطرائف- الفوازير-الاغتياب).

أجبرت سياسة الانفتاح الاقتصادي والسياسي مختلف الفئات على الانخراط في مسيرة “الهدم والبناء”، والبحث عن المال للتغلب على صروف الدهر. ونتيجة تعمق الهوة بين الواقع والأماني (وخاصة بين ما يزعمه الخطاب الرسمي وبين ما يعاينه الفرد في حياته اليومية) تقوى خطاب الجماعات الإسلامية في أفئدة الناس لأنه أضحى يدغدغ مشاعرهم واعدا إياهم ببدائل مثلى ووعود براقة.

ونتيجة معاناة ذات من أزمة نفسية حادة ( دخول زوجها إلى السجن بعد تشاجره مع الشنقيطي وكثرة المصاريف وارتفاع الأسعار) أصبحت مفعمة بالخطاب الديني لطرد العفاريت التي أصبحت تقلقل راحتها وتقض مضجعها.

يحتمل عنوان رواية ” الفريق“(1986) لبعد الله العروي معنيين. أحدهما تقريري، يفيد الفريق الرياضي الذي شكله شعيب لإعادة الثقة إلى الجمهور الصديقي (نسبة إلى بلدة الصديقية) ورفع اسم مدينتهم في المحافل الرياضية. وثانيهما إيحائي يخص ” جماعة وسيطية” لا تؤدي دورها الاجتماعي على ما يرام لاشتداد الرقابة على أنشطتها من لدن السلطات المحلية من جهة، وتضارب المصالح الذاتية والجماعية، والقيم الحداثية والسلفية من جهة ثانية.

وهو ما يؤثر سلبا في دورها التأطيري، وينجم عنه ” فراغ” اجتماعي وثقافي داخل المدينة. ونتيجة هذه الهوة بين النخب، على اختلاف مشاربها وتوجهاتها، وبين الجماهير التواقة للنصر والتغيير تحدث بين الفينة والأخرى مظاهرة/ بركان ( لوجود تشابه بين البركان الذي حدث في ميسور والمظاهرة الاجتماعية التي حدثت في الدار البيضاء) لم يتمكن الأخصائيون والباحثون من معرفة أسبابها الحقيقية.

واندلعت المظاهرة بعد العرض الباهت الذي قدمه فريق شعيب ( لم يقدر على بلورة ما تلقاه من تعليمات متضاربة ( دينية وصوفية وخرافية وحداثية (على أرض الواقع)، إذ عمد الجمهور على إضرام النيران وتخريب المنشآت احتجاجا على الهزيمة التي مني بها الفريق الذي لم يكن في مستوى التوقعات المنتظرة منه.

لما كان علي نور في الملعب صحبة خميطة سمع صياح الجمهور وهتافه، وتناهي إلى سمعه الموضوع المنفلت الذي كان يبحث عنه منذ سنين. هو ما يتلفظ به الجمهور الغاضب ( النار في الحطب) الذي يحتج بطريقته الخاصة على نحو يمكنه من فرض إيقاع غير متوقع في الحياة ( المظاهرة/ البركان) تنفيسا عن مكروباته، وتعبيرا عن مشاغله وأهوائه وهواجسه، وسعيا إلى انتصارات تنسيه غُمم الهزائم المتتالية والمتراكمة.

ارتقى لخضر”( الشخصية الرئيسة في رواية ياسمينة صالح المعنونة بالاسم نفسه(2010)) من حمال في الميناء إلى جنرال بسبب تفانيه في العمل،والتستر عن مظاهر الفساد والتهريب، وتلفيق التهم للأبرياء، وكتابة تقارير عنهم وتصفيتهم جسديا.

ولقد انتابه، مع مر الأيام، تمزق بين انتمائه لأسرة كادحة و تطلعه إلى السلطة المستبدة ، وبين ما يعاينه في الواقع وما يضفى عليه هالة من التضخيم استجلابا لاحترام رؤسائه وتقديرا لمؤهلاته الاستخباراية، وبين حنينه إلى الفتاة ( اسمها نجاة) ألتي لفظته لتتزوج بضابط وطلب يد فتاة عرجاء ومريضة بالقلب ( اسمها أيضا نجاة) إرضاء لرؤسائه في العمل ( قبول الصفقة لتفقد أحوال أسرتها وممارسة عمله الاستخباري لجمع معلومات عن والدها مدير الجامعة).

ومن حسن الصدف أن حسين (ابن لخضر) أحب ” حياة” وهي بنت نجاة التي لم تسغ الزواج بلخضر لكونه حمالا ابن حمال. وهكذا نلاحظ، من بين أشياء أخرى، تقاطعات مفاجئة ينسجها الحب ويخلق منها معادلات غريبة تكشف عن تناقضات ومفارقات بين فئات اجتماعية، وتبين ما حصدته الآلة الإرهابية من أبرياء، وما خلفته من آثار وجراح في جسم المجتمع الجزائري ( قتل ، جراء عمل إرهابي،أب حياة الضابط الذي انتزع عشيقته ( فيما بعد أم حياة) من مخالب حب لخضر، وتعرض أيضا حسين ابن لخضر لعمل إرهابي أدخله في غيبوبة..).

بالجملة تحكي الرواية عن فترة عصيبة من تاريخ الجزائر تميزت بتنامي العمليات الإرهابية واشتداد عضد الحركات الإسلاموية. وتعلل الروائية ذلك بطغيان الهاجس الأمني، وتفاقم المشاكل الاجتماعية، وانسداد الآفاق، واستفحال ظاهرة الاحتقان الاجتماعي، واغتناء قادة الجيش من تهريب المواد الغذائية والأسلحة وتصارعهم سعيا إلى كسب مواقع نافذة استجلابا للمنافع الشخصية.

توقف نجيب محفوظ عن الكتابة ما يناهز خمس سنوات اعتقادا منه بأن الثورة ستحقق – وفق جورج لوكاش- “التناسب الكامل بين أفعال الروح ومطالبها”. ولما خاب ظنه عاوده الحنين إلى كتابة الرواية ” اللص والكلاب” 1961 حرصا منه على إبراز مدى ملاءمتها في الدفاع عن القيم الأصيلة داخل مجتمع تفاقمت فيه الظواهر المستبشعة والرذائل ( على نحو الخيانة والغدر والمكر والتسلق الطبفي).

بمجرد أن خرج سعيد مهران من السجن قرر أن ينفذ مخططه للانتقام ممن سولت له نفسه بتمريغ أنفه في التراب وإذلاله. ومن ضمنهم زوجته نبوية التي لفظته بعد اعتقاله وتزوجت بمتعلمه عليش، ورءوف علوان الذي تنكر لمبادئه الثورية بعد أن ترقى اجتماعيا وأضحى من عليه القوم، وعليش الذي استولى على ممتلكات غريمه، وأصبح له أتباع يأتمرون بأوامره وتعليماته.

وعوض أن تصيب رصاصات سعيد مهران أهدافها أودت بحياة أبرياء. وهو ما جعل سعيد مهران يستحضر بعض نصائح رفيقه في  النضال رءوف علوان، ومن ضمنها  ضرورة إحكام التنظيم الجماعي تفاديا للنزوات والتطلعات الفردية التي تشبه الرصاصات العمياء والطائشة في كونها تخطئ أهدافها.

بالجملة، نعاين من خلال هذه العينة من الروايات مدى ملاءمة السرد في مواكبة التحولات الاجتماعية والقضايا السياسية الساخنة. وما يمنح للسرد قيمة دلالية هو عدم مراهنته على نسخ الواقع بل إعادة تمثيله وتحبيكه بطريقة فنية ورمزية.

 سعت، في هذا الصد، كل رواية على حدة إلى إبراز عيوب المجتمع ونواقصه ثم بالمقابل اقتراح بدائل للعيش الكريم (المواطنة التخييلية). انتقدت رواية ذات سياسة الخصخصة والانفتاح الاقتصادي على الغرب، وكشفت رواية ” لخضر” عن كواليس ” البيروقراطية العسكرية” وتطلعاتها، وبينت رواية ” الفريق” مخاطر تنامي التقليدية الجوهرانية” في المجتمع، وأبرزت رواية ” ذات” معاناة المصريين من ” الليبرالية المتوحشة”، وواكبت رواية ” اللص والكلاب” انهيار القيم الأصيلة بسبب إخفاق ثورة الضباط الأحرار في تحقيق أهدافها.

محمد الدّاهي

باحث أكاديمي مغربي، أستاذ سيميائيات السرد والسرد الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مكلف بفحص وتقويم وتحكيم أعمال علمية وأدبية قصد المُدارسة والنشر، عضو في فرق البحث والمختبرات ذات صلة بالتخصص، عضو في عدد من المَجلات العربية: الثقافة المغربية، فكر، كتابات معاصرة، الخطاب، سمات، المقال..، عضو اللجنة الوطنية للتقويم والمصادقة التابعة لوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي (مادة اللغة العربية)، عضو اللجنة المُكلفة باختيار المؤلفات الخاصة بمادة اللغة العربية في التعليم الثانوي التأهيلي. صدرت له عدَّة مؤلفات في النَّقد الأدبي وفي البيداغوجية. حاصل على جائزة المغرب للكتاب لسنة 2006 في صنف الدراسات الأدبية والفنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى