اللغة العربية

أزمة اللغة العربية في بيْتِها العربي

تُعاني اللغة العربية في بَيْئتِها العربية؛ أكثرَ مِمّا تعاني خارجَها، بل إنّ مُعاناتَها الحقيقية آتيةٌ بالأساس من البيئة العربية، التي كان من المفروض أن تنهضَ بهذه اللغة الجبَّارة والجميلة، وتَحمِلَها إلى مَصاف اللغات العالمية الأكثر إشعاعا وتأثيرا.


ولكن هذا لم يحدث؛ وتقهقرتْ اللغة العربية إلى أسفل سافلين، وتم تغييبُها وإقصاؤُها وتهميشُها في عُقرِ دارِها وبينَ أهلِها، وحشْرُها في زاويةٍ ضيقةٍ جداً لا تتعدى بعضَ المُعاملات الرسمية، وبعضَ فصول وأقسامِ المؤسسات التعليمية.


تتمثل مُشكلة اللغة العربية أساساً في البدائل التواصلية المستحدَثة في البيئات العربية، هذه البدائل تقومُ أساسيا على تطوير اللغة العامية وتطويعِها وجعلِها قابلة لتحقيقِ نوعٍ من التكيّف التواصلي الذي يفرضُه هذا العصر، باعتبارِه عصرَ تواصلٍ بامتياز، حيث أصبح العالَـمُ بأسْرِهِ اليومَ، عبارةً عن زُقاقٍ صغير بإمكان أيَّ إنسانٍ أن يعرف الأحداث والمتغيرات والمستجدات العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ..، التي تحدثُ في أركانِه وزواياه، شريطةَ أن يكون لديه الحدَّ الأدنى من الإلمام بالتكنولوجيا التواصلية (التعامل مع الأزرار).


لقد استعاض العربُ عن لغتِهِم العربية الفصحى[i] بالعامية الـمُطوَّرة، بسبب عواملِ الأمية والجهل والتخلف الـمُستَشْرِي، والتي عمّرتْ لعقود طويلة، ولم يُواكِبْها تطورٌ ولا تحسينٌ في الأداء التعليمي؛ نتيجة ضُعف المنظومة التعليمية العربية وتقادُمِها وتصدّع مناهِجِها، لدرجة لم تعد قادرةً على مُواكبة التطور العلمي والمعرفي والثقافي العالمي، فأنتجَ المجتمع العربي بدائلَه اللغوية والتواصلية الخاصة به؛ والمستجيبة لظروفِه، وجعلَها قابلة لتلقي الجرعات الخارجية الـمُحيَّـنة مِن كلِّ شيء،


فكانت المادة الوحيدة التي يُمْكن أن تفيَ بهذا الغرَض هي العامية وليست اللغة العربية الفصحى، لسبب بسيط؛ كونَ العربية الفصيحة لُغةَ عِلمٍ وفنٍّ وثقافة وأدب، وهذه المقومات لم تعد تُسعِفُها المؤهلات العلمية ولا الفكرية ولا الفنية للإنسان العربي، كما أن هذه المقوّمات ليست أوَّلية بالنسبة للأمة العربية في حالتِها البئيسة هذه، حيت صارَ مُنتهى طموح الشعوب العربية اليوم هو الحصولُ على رغيفِ عيش، وعلاجٍ، وأمْنٍ وبعضُ الكرامة. فالمعدةُ الفارغة لا تُحَفِّز على العَمَل ولا على الإبداع والتعلمِ والفن والابتكار.


فلو نظرنا إلى البرامج التي تبثُّها غالبية القنوات العربية، والتي تحظى بنسبِ مشاهداتٍ فلكية، فسنجدها تتمحور حول المسلسلات الأجنبية المدبلجة (التركية – المكسيكية – الهندية…) هذا النمط؛ فرضه الواقع الثقافي الـمُتردي للأمة العربية، بالإضافة إلى حالة الأمية والجهل المستشرية في البلدان العربية، ومؤخرا ظهرت الدبلجة العامية للرسوم المتحركة أيضا، مما يُـنذر بصعود أجيال من الأميين والجاهلين باللغة العربية، الماهرين في العامية.


إن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على تردي الوضع العلمي والمعرفي واللغوي والثقافي العربي، لدرجة أن الغالبية الساحقة من المشاهدين العرب لا تستهويهم اللغة العربية، وأن طائفة كبيرة منهم يَشْكُلُ ويَـصْعُبُ عليها فَهْمُ العربية الفصحى.


ولأن الهدفَ الأول والأخير لشركات الإنتاج التلفزي هو الربح؛ فإنهم يُقدِّمون لكل زبونٍ ما يناسبه، والمجتمع العربي (الأميُّ غالبيتُه) تناسبُه مادة تتماهى مع أُمِّـيَّـتِه وجهلِه، وهي العامية. هذه العامية التي أصبحت شيئا فشيئا تنتزع أماكنَ نفوذ اللغة العربية، وتُقلّص من هامش اشتغالِها ومجال سيطرتِها.


لقد تَـبَـلّدَ الذوق العربي وصار في الحضيض، وتحولتْ المجتمعات العربية إلى أسواقٍ استهلاكية ضخمة تقتني وتستهلِكُ أيَّ شيءٍ وكلَّ شيء، بما في ذلك استهلاك اللغات واللهجات الوافدة والوسائل والإمكانات التواصلية المختلفة.


وفي بعض الدول العربية تَمَّ الإجهاز على اللغةِ العربية فيها بشكلٍ يكادُ يكونُ كُليَّا وكاملا، وحلّتْ العامية بديلا تواصليا وإجرائيا في كل شيء، وتغلغلتْ في الإعلام والصحافة المكتوبة والمعاملات الرسمية والإدارية، وفي البيانات والخُطب الرئاسية وغيرِها مِن المجالات التي كانت حِكرا على اللغة العربية الفصحى إلى وقت قريب.


  • العامِّيَّة في الإعلام العربي

مَن يُتابعُ الإعلامَ بجميع أطيافِه في غالبية الدول العربية، سيجد أنه يقوم أساسا على ما يُمكن أن نَصطلحَ عليه بـ “العامية الفصحى“، إذ يعتقدُ غالبيَّةُ المتلقين والـمُشاهدين أن ما يُقدَّمُ لهم في الإعلام سواءً المكتوبَ (الجرائد والصحف) أو السمعي/البصري (البرامج التلفزية والإذاعية) يُقدم لهم باللغة العربية الفصحى، والحقيقة غيرُ ذلك، إن المادة الإعلامية التي يتلقاها المشاهد (العربي) يتلقاها بالعامية، وليس باللغة العربية الفصيحة.


في القنوات التلفزية أساسا، سواءً الخاصة أو التابعة لوزارات الإعلام والاتصال، هناكَ سيْلٌ كبيرٌ مِن البرامج التي تقدَّمُ للمشاهد بالعامية، وبعضُها يُقدَّمُ بالعامية الفُصحى، خاصة في نشراتِ الأخبار، فالمتابعُ الذي يمتلك أبسط أبجديات اللغة العربية، يستطيع وبسهولة كبيرة تمييزَ هذه العامية في نشراتِ الأخبار.


إن كثيرا من الإعلاميين (العرب) لا يُجيدون حتى المبادئَ الأولى والأولية للغة العربية التي يقدمونَ بها برامجَهُم، فتراهُم تارة يرفعون المفعول، وتارة ينصبون الفاعل، مما جعل مستوى الخطاب الإعلامي العربي عامة، ينحدر إلى الدرك الأسفل لغةً وموضوعاً.


الغالبية الساحقة من المُنْتَسِبين إلى الإعلام والصحافة في الوطن العربي؛ يحتاجون بشكل عاجل ومُلِحّ إلى دوراتٍ تدريبة في أساسيات اللغة العربية وبديهِيَّتِها، قبل شروعِهم في تقديم البرامج أو تحرير المقالات، لأن فاقد الشيء لا يُعطيــــه.

  • الصحافة المكتوبة

   عندما تطالِعُ كثيراً مِن الصحف العربية، والكبريات منها على وجه الخصوص، والتي يعتبرونها (اللسان العربي للصحافة المكتوبة) وتُحاولُ قراءتَها قراءة تصحيحية بالقلم الأحمر، فإنك لن تجد أيَّ أثرٍ للغة العربية الفُصحى، ولا حتى اللغة التي يُسمونها “لغة الصحافة”، والتي هي في الحقيقة مزيجٌ من العربية الفصحى والعامية مع كثير من المصطلحات السياسية والاقتصادية والرياضية.


بل وستجد أخطاءً إملائيةً بالجملة، وكمًّا هائلا من أخطاء خَلْطِ الحروفِ، ناهيك عن الأخطاءِ اللغوية والنحوية، وستجد كذلك كمًّا هائلا من المصطلحات والألفاظ الأجنبية الدخيلة على اللغة العربية، كما ستجد عباراتٍ وجُملا وأحيانا فقراتٍ كاملة بالعامية. والمشكل الأكبر والأخطر من هذا كلّه، هو اعتقادُ وتصديقُ الكُتَّاب والقراءِ على حدٍّ سواء، أن ما يكتبونَه وما يقرؤنَه مكتوب باللغة العربية الفصحى.

الركاكة؛ هي السمة الغالبة في الإعلام العربي عموما.

  • العامية في لوحات الإشهار ولافِتات المَحَلات التجارية

يكفي أن يتجول الـمَرْءُ في الشوارِع العامة والأزقة الرئيسية لبعض الدول العربية، ليرى عشراتِ اللاّفتاتِ والإعلاناتِ ولوحات الإشهار مكتوبة بالعامّية.


فيما يعتقدُ كاتبُوها أنها لغة عربية فصيحة، هذا دون أن نلتفتَ إلى الأخطاء النحوية[ii] واللغوية[iii] والإملائية[iv]، التي تعج بها هذه الإعلانات، ناهيك عن أخطاء خلط الحروف[v] التي صارت ظاهرة خطيرة جدا، ومنتشرةً في الأوساطِ الإعلامية والعِلمية. كما أن نسبة 99% من هذه الإعلاناتِ، تحتوي على ألفاظٍ وكلماتٍ أجنبية مأخوذةٍ من لغات أخرى (الإنجليزية / الفرنسية).


ولأن المجتمعات العربية مجتمعاتٌ لا تقرأ، فإن ما يُقرأُ فيها هي هذه الإعلانات والجرائد، وبالتالي فإن الجرعات المتكررة التي يتلقاها المواطن العربي (القادر على القراءة) عامة، تجعل الخطأ يترسخ لديه ويتقرّر بسبب التكرار الدائم والمتواصل لهذه الأخطاء.


وهذه عيِّنَة عشوائية من هذه الأخطاء:

النّـفـش = النقش ///  الزخرفت = الزخرفة /// اعمال = أعمال

مخسلة = مغسلة /// تنضيف = تنظيــف

الزّريـــة = الذّريــة

باطل بالتــلاتـــة = باطل بالثـــــلاثـــــــة

صفقـت = صفقـــة

إنشاء الله = إن شاء الله /// عنقريب = عن قريب


  • خــلاصة

لقد تم تطوير اللغة العامية لضرورة مُلحة، تتمثَّل في مواكبة التطور الـمُطَّرِد الذي يعرفُه العالَم، بعد أن تم تحيِيدُ اللغة العربية الفصيحة، التي لم تجد مُستندا لا علميا ولا فكريا ولا فنيا ولا أدبيا ولا حتى ثقافيا لتقوم عليه. (وذلك راجع للتخلف الشامل الذي تعيشه البلاد العربية بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية..).


فكانت العامية هي البديل الـمُرتجى لمواكبة ومسايرة التطور الذي يعيشُه العالم، فتمَّ مُزاوجة العامية بكمٍّ هائلٍ مِن الـمُفردات الأجنبية (الانجليزية والفرنسية / لغة الاستعمار)، وتَغْيِيبِ اللغة العربية الفصيحة، هذه الحالة الـمُشكِلة، تسبَّبَتْ في خلخلة النظام اللغوي العربي، وأدت إلى اختفاءِ معجم كبير، واسعٍ ومهمٍّ من المصطلحات والعبارات العربية الفصيحة التي كانت تُستعمل في العامية العربية إلى الأمس القريب، واستبدالِها بمُفردات إنجليزية والفرنسية وتركية وفارسية.


هذا الخلل الخطير صَعَّبَ كثيرا عملية إحياء اللغة العربية والدَّفع بها نوح التوظيف الـمُوازي مع اللهجة العامية، بعد أن تم تحجيم دورِها وتقزيمِه، فصارت لغةً غريبةً في دارِها، مجهولةً في قوْمِها. لا تَصلُح إلا لتمثيل الأفلام التاريخية، أو دبلجة البرامِج الوثائقية.


إنَّ وضعَ لغتِنا اليوم، أتعسُ وأصعبُ بكثير مما عانته فيما مضى، مما يستدعي تدخلا عاجلا وفوْريا، ويتطلبُ مجهودات جبّارة ونياتٍ صادقة لإخراجِ لُغتِنا من هذا الوضع الصعب والـمُزري، ومن هذا الدَّركِ الأسفل من التضعضع والانحدار.  


[i]  بالعربية الفصحى التراثية، وتقابلها العربية الفصحى الحديثة أو المعيارية، وهي اللغة المستخدَمَة اليوم بشكل واسع في الصحافة أساسا، والمعتمدة في التعليم وفي المعاملات الرسمية، وهي سليل مباشر للعربية التراثية.

[ii]  الخطأ النحوي: هو الخطأ واللحن في لحركات الإعرابية وعلامات البناء كنصب الفاعل ورفع المفعول والمضاف.

[iii]  الخطأ اللغوي: وهو استعمال كلمات في غير موضِعِها أو إنشاء تعابير لا تنسجم مع النظام التركيبي للغة العربية، كما أن خلط الحروف يعد من الأخطاء اللغوية الشائعة، كاستبدال حرف الظاء بالضاد أو الذال بالدال وغيرِها من الحروف الأخرى.

 [iv]  الخطأ الإملائيّ: هو الخطأ في رسم الكلمات، أي في تطبيق القاعدة الإملائية (الكتابة) كزيادة حرف أو حذف حرف، أو استبدال حرف بآخر.

الحسين بشوظ

كاتب، صحفي عِلمي وصانع محتوى، باحث في اللسانيات وتحليل الخطاب، حاصل على شهادة الماجستير الأساسية في اللغة والأدب بكُلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. مسؤول قسم اللغة العربية في منظمة المجتمع العلمي العربي بقَطر (سابقا)، عُضو مجلس إدارة مؤسسة "بالعربية" للدراسات والأبحاث الأكاديمية. ومسؤول قسم "المصطلحية والمُعجمية" بنفس المؤسسة. مُهتم باللغة العربية؛ واللغة العربية العلمية. ناشر في عدد من المواقع الأدبية والصُّحف الإلكترونية العربية. له إسهامات في الأدب إبداعاً ودراسات، صدرت له حتى الآن مجموعة قصصية؛ "ظل في العتمة". كتاب؛ "الدليل المنهجي للكتابة العلمية باللغة العربية (2/ج)".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى