نقد

التعليم الرقمي في زمن كورونا

 

فرض فيروس كورونا على العرب الانتباه إلى أهمية الوسيط الجديد، وضرورته في الاتصال والتواصل، باستخدام ما يوفره من إمكانات جديدة لم تكن متاحة سابقا. صار الحديث عن «التعليم عن بعد»، وإقامة الندوات، ومناقشة الرسائل والأطاريح الجامعية ممكنا ومتاحا، في ظل هيمنة الحجر الصحي.

لكن السؤال الذي لم نطرحه، لأن مقتضى الحال هو ما فرض علينا هذا المآل، هو: بماذا مهدنا لهذا التعليم عن بعد؟ وكيف مارسناه في تنظيم الندوات والمناقشات في الواقع الافتراضي؟ وما مدى تحقق المراد من اللجوء إلى هذه الضرورة؟ وهل سنعود إلى الوضع القديم بعد كشف الغمة عن الأمة، بحيث يصبح الحديث عن التعليم عن بعد، واللقاءات الافتراضية مجرد ذكريات، نتحدث عنها كما نتناول حوادث مرّت في الزمان؟

لقد فرض الحجر الصحي ثنائيات جديدة، بينت أن الثنائيات القديمة لم يبق أي مبرر لبقائها، وأن الانتقال إلى استثمار التقنيات الجديدة في التواصل بات ضرورة لا مندوحة عنها. لقد تساوى «التعليم الخاص»، و»التعليم العمومي»، وصار بالإمكان الحديث عن «التعليم حضوريا»، و»التعليم عن بعد»، سواء كان في هذا النظام أو ذاك. فما كان بالإمكان تعلمه في قاعة الدرس «المغلقة» صار ممكنا، ومفتوحا في أي فضاء خارجها.

كما أن ثنائية «الدعم المدرسي» و»الساعات الإضافية» لدى من عندهم الإمكانيات، من عدمها لدى أبناء الفقراء، باتت عرضة للزوال بعد انتشار الهواتف الذكية، نسبيا لدى الجميع. لم يبق الأمر مقتصرا على التعلم في حد ذاته، فقط، ولكن أيضا على «مقرراتـ»ـه. فما كانت تحجبه قاعة درس في مبنى خاص بـ»العلوم»، يمكن أن يغدو متاحا، عن بعد، لمن هو في فضاء كان يكرس للآداب، أو الطب، أو الحقوق.

إن القاعدة الجوهرية التي يمكن تمثلها من خلال منجزات «الوسائط» هي أنها تغير كل شيء، وتفرض علينا أن نتغير معها. كان المجلس الشفاهي يفرض طريقة خاصة في الجلوس، في فضاء دائري يتيح للجميع المشاركة في الإرسال والتلقي.

ولما ظهر التلفزيون صار الفضاء الذي نملؤه مربعا أو مستطيلا، وتتوحد أنظار الجلوس في اتجاه المكان الذي يحتله. ومع الهواتف الذكية، صار كل واحد، وإن كان يجلس إلى جانب غيره، وأيا كان موقعه في البيت، مكبا على وسيطه منغمرا فيه. ولكي لا يشارك غيره في سماعاته، يضع في أذنيه ما يمنع غيره من مشاركته. مع الوسيط الجديد صار كل واحد يعيش عالمه الافتراضي المختار.

كان الدرس الجيد في التعليم ما قبل الرقمي محاطا بـ«السكون» التام الذي يجب أن يسود قاعة الدرس، وتفرضه صرامة المعلم من خلال فرض «السكوت»، بهدف «الإنصات»، ومتابعة الشرح.

التعليم الرقمي يفرض واقعا جديدا، وطرقا تربوية جديدة، ومقررات جديدة تتماشى مع سيل المعلومات المتوفر، الذي أدى إلى جعل المعلومات «مطروحة في الطريق» التي تسير نحو الواقع الافتراضي، وبذلك صار بإمكان أي متعلم أن يوسع دائرة المعلومات التي يريد، بدون الحاجة إلى التسجيل في «مؤسسة» خاصة تقدم له «شهادة» متابعة الدروس، والنجاح في امتلاك المهارات المتصلة بما تلقاه.

إن زخم المعلومات المنتشرة في أرخبيل عالم الإبحار، يستدعي تكوينا من نوع جديد، وتعلمات جديدة، وامتلاك مهارات جديدة، وهذا ما ينبغي أن تتوجه إليه «المدرسة الرقمية»، حضوريا، أو عن بعد. أن نتعلم كيف نتعلم صار المطلب الجوهري من المسألة التعليمية والتربوية.

كان الدرس الجيد في التعليم ما قبل الرقمي محاطا بـ»السكون» التام الذي يجب أن يسود قاعة الدرس، وتفرضه صرامة المعلم من خلال فرض «السكوت»، بهدف «الإنصات»، ومتابعة الشرح. إنها الخطية التي تنبني على أساس: من ـ إلى. من المعلم إلى التلميذ، ومن السبب إلى النتيجة. لكن الدرس الرقمي يتأسس على «الحركة»، و»الانتقال»، و»التفاعل»، بهدف الاستكشاف، وخوض المغامرة. كانوا يعلموننا كيف نربع أيادينا لنتعلم. مع التعليم الرقمي علينا أن نتعلم كيف نحررهما للتحرك في اتجاهات مختلفة.

إن التغيير الذي يفرضه التعليم الرقمي كان الوعي به، بشكل أو بآخر، منذ القدم. لكن الوسيط الجديد جعله واقعا يفرض نفسه، وقابلا للتحقق بصورة حقيقية. إن تغيير السياسة التعليمية والتربوية بات ضرورة ملحة. وما فرضته الجائحة مع «التعليم عن بعد» ليس سوى تنبيه إلى أن الرؤية التقليدية للتعليم والثقافة والعلاقات الاجتماعية، لا يمكنها أن تستمر على النهج الذي ساد، والذي لم يكن يؤدي دائما إلا إلى التجريب، والاستعجال، وأخيرا إلى الفشل. لقد آن الأوان للاستفادة من تجربة «التعليم عن بعد» المفروضة علينا، والتي لم نخترها، تصورا وممارسة لتحديث منظومتنا التعليمية والتربوية والبحثية.

من محاسن الجائحة التنبيه إلى أننا كنا خارج الزمن على المستوى الرقمي. ولا يمكن لهذه التجربة المفروضة إلا أن تجعلنا نعمل على فتح صفحة جديدة قوامها إعادة النظر في منظومتنا التعليمية، وتحفيزنا للتفكير المؤسسي وإشراك الفاعلين في المجال التربوي والبحثي لخلق مسارات جديدة لمحاربة الأمية بكل أنواعها، وعلى رأسها الأمية الرقمية. إن مدخل التغيير يكمن في فتح ورشات للتفكير العلمي والإجرائي حول أهمية التعليم الرقمي، عبر الاستفادة من التجارب الأجنبية لا استنساخها، وإشراك الفاعلين في مختلف المجالات لوضع تصورات عملية تخطط لسياسة تعليمية جديدة وملائمة واستشرافية.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى