نقد

كورونا: ثلاث علاقات وأربع حقائق

 

لا يخلق الأليف والمعتاد لدى الفرد والجماعة، أي تفكير في ما يجري من حولهما. فيتصرف المرء وفق ما يمليه إيقاع الحياة الرتيب، حتى إنه يفقد القدرة على التمييز بين الأشياء والحقائق: يدمر، ويتوهم أنه يبني. يسيء، ويزعم أنه يحسن صنعا.

لكن العجيب والغريب يخلقان لديه حيرة، ورضة تهز ما اعتاد عليه، وألِفه، وتدفعانه إلى طرح السؤال عما يحدث. أليس فيروس كورونا غريبا وعجيبا؟ لقد جرّ الإنسان إلى التوقف على الأليف والمعتاد، وخلق لديه الرعب والهلع، وجعله يحسب ألف حساب، وهو يغير مجرى حياته، فارضا عليه نمطا مختلفا عما عاشه ردحا طويلا من الدهر.

في غمرة الانشغال باليومي والأليف، جاء الفيروس ليضع الأفراد والجماعات والمجتمعات أمام أربع حقائق يعرفها الإنسان جيدا. كما أنه وضع البشرية جمعاء أمام ثلاث علاقات، بهدف التفكير فيها لضبطها على أساس بنّاء. وينقسم الناس أمام هذا الحدث إلى قسمين: قسم يحلم باسترجاع المعتاد، وآخر يفكر في تغييره.

أما الحقائق الأربع فهي: الضعف، والقذارة، والانفصال، والتدمير. يتمثل الضعف البشري في الخوف الدائم، وإن كان ما يوحي به تصرفه يشي بنقيضه. إن الإنسان يخاف من المستقبل، ومن الطارئ، ومن الممكن. ولكنه يعمل جاهدا على التغطية على هذا الضعف بادعاء القوة، والإرادة، والتملك. فهو في أي موقع كان لا يأبه بغيره، ويستغل مكانته لإبراز أنه الأقوى، وأنك الأضعف الذي عليه أن يسلم له بأنه في موقع أحسن منك. أما في العمق فهو يتصرف مثل من يراه أضعف منه. وكشف هذا الفيروس عن هذه الحقيقة، وجعل الجميع، بغض النظر عن مواقعهم يعيشون ويعبرون عن الضعف عينه، وإن اختلفت أوجه التعبير. ولعل قوة الفيروس، وهي تتجلى في إبراز الضعف البشري، تتأكد، أيضا، في إظهار حقيقة ثانية، وهي «قذارة» الإنسان التي فرضت عليه تلك القوة أن «يتطهر» منها، ومن أدرانه المختلفة، حتى جعلته يسير بين الناس وهو مقنع.

فرغم ما توحي به مظاهر الإنسان المعاصر من «نظافة»، كشفت قوة الفيروس أنه، وإن كان ظاهره يومئ إلى استفادته مما يوفره العصر من أسباب النظافة، لا يقل نتانة عن أنتن الحيوانات. فضعفه الباطني، يكشف قذارته الداخلية التي يعمل على إخفائها بالتباهي بما يوشي به خارجه من أنواع العطور وأثمن الملابس وأرقاها. وما فرضه الفيروس من «تطهير» السطوح، ورش الشوارع، وتكرار غسل الأطراف لمدة طويلة، سوى إبراز ضرورة التطهر بشكل مختلف مما اعتاد عليه طوال حياته.

يتمثل الضعف البشري في الخوف الدائم، وإن كان ما يوحي به تصرفه يشي بنقيضه. إن الإنسان يخاف من المستقبل، ومن الطارئ، ومن الممكن.

تتصل الحقيقة الثالثة بسابقتيها، وهي تتمثل في أن الإنسان لا يعمل إلا على الانفصال عن غيره، بزعم القوة، والنظافة، بالقياس إلى غيره من الناس، وإن كان يبذل جهدا كبيرا للتدليل على أنه يسعى إلى تحقيق الاتصال معهم. إن اتصاله بهم انفصال، لأنه ينبني على الرغبة في استنزافهم، والتحايل عليهم واستغلالهم ببقائه متعاليا عنهم. جاء الفيروس ليقول له: مارس انفصالك عن الجميع، حتى تعرف معنى الاتصال.

وأخيرا، تبدو حقيقة رابعة، وهي أن الإنسان، وهو يدعي البناء والاستثمار، لا يعمل إلا من أجل التدمير، وسرق الثمار. الكل يتسابق على التسلح، أو على ما يمكّنه من الهيمنة على الآخرين، وبغض النظر عن أي أسلوب. بدا ذلك في تدمير العلاقات بين الناس، والشعوب، وفي ممارسة التقتيل، وفي إلحاق الأذى، وأكبر الخسائر بالنظام البيئي، وإحراق الغابات، وإبادة الكائنات الحية، وتلويث الأودية والأنهار والبحار دليل ذلك. جاء الفيروس ليقول كفى تدميرا، انشغلوا قليلا بالبحث عما يوقف البلاءǃ ولا داعي للحديث عمن استغل الجائحة ليواصل التدمير، فأولئك لا علاقة لهم بالإنسان؟

تبرز لنا العلاقات الثلاث، أولا: في العلاقة مع الذات. وثانيا: في العلاقة مع الآخرين. وثالثا: مع الطبيعة. حين تكون علاقة الفرد مع نفسه متواصلة، وغير منشغلة بتقويمها عن أي انحراف، لا يمكن إلا أن تخضع لسلطة الأهواء التي لا تجر المرء إلا إلى الخضوع لما تفرضه الحياة اليومية التي تسيّرها الوسائط المختلفة، وينعكس ذلك على علاقتها بالآخرين. تمارس العدوى الاجتماعية نفسها، لأنها نتاج هيمنة الأهواء، سلطتَها على الأفراد في علاقتهم ببعضهم بعضا، فيسود النفاق والكذب الاجتماعيان، ويهيمن التقليد، وحب التظاهر، وتمجيد الذات.

يؤثر كل ذلك على الحياة الاجتماعية، فيصبح الإنسان عدوا لأخيه الإنسان. فتغدو العلاقات الانتهازية والمصلحية وحب التميز، وما شابه هذا من الأهواء الدالة في وقت واحد على الضعف الذي يتستر بالقوة، وبالقذارة المتلفعة بالنظافة، وبالانفصال المزعوم بالاتصال، وبالتدمير الذي يمس الإنسان في علاقته بالإنسان، ويمتد هذا التدمير ليلحق بالبئية التي يفترض أن يسهم الجميع في الحفاظ عليها بما يفيد الجميع. فهل نجحت الجائحة في إعادة النظر في هذه الحقائق والعلاقات؟

يحق للمتوقفين على آثار الجائحة على اقتصادياتهم، أن يتحدثوا عن التدمير الذي خلفته، لكن عليهم أن يتذكروا التدمير الحقيقي الذي يمارسونه على الشعوب التي راكموا على حسابها ثرواتهم ورفاهيتهم منذ أمد بعيد.
دمار الجائحة بناء، أما تدميرهم فخراب.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى