البحث العلمي

مؤامرة بيولوجية أم هوس بالمؤامرة.. لماذا يعتقد البعض أن الكورونا تم تصنيعه ؟

 

على مدى أقل من أربعة أشهر، تنامى الأمر الخاص بفيروس كورونا الجديد ليصل إلى كل منزل في هذا الكوكب، إذا قررنا استثناء جامعي الثمار في غابات الأمازون وأستراليا وأفريقيا جنوب الصحراء، وعلى الرغم من أن خبراء الرعاية الصحية في العالم كله قد غيّروا وجهة نظرهم عن الفيروسات التاجية منذ ما يقرب من سبعة عشر عاما مع أولى موجات “سارس”، فإنها المرة الأولى التي يتعامل خلالها الناس العاديون مع “عطسة” أو “نوبة سعال” بهذا الحذر الشديد في الشارع.

إلى جانب كل ذلك، تطورت أفكار الناس على وسائل التواصل الاجتماعي في فرعين منفصلين تماما ومتطرفين، كلٌّ في اتجاهه. الأول يمارس الهلع كروتين يومي، ويتعامل مع كورونا الجديد على أنه أخطر ما يمكن أن تُصاب به، والثاني يقول إن الأمر كله عبارة عن مؤامرة أو فرقعة إعلامية، فالفيروس تافه للغاية ولا يقتل نسبة كبيرة من الناس، لا حاجة أصلا إلى الخوف منه أو اتخاذ أي إجراءات احترازية.

  • اصطياد الحالة صفر

حسنا، لنبدأ من إيطاليا، الوضع يدعو للقلق، لكن دعنا من كورونا الجديد الآن، والذي وصلت إصاباته إلى 6 آلاف شخص مع عدد وفيات تخطى المئتين هناك، نتحدث هنا عن فوضى الهلع، يسميه المواطنون بـ “الطاعون المعاصر” أو “الطاعون الجديد”، الكثيرون هناك يتعاملون مع الأمر(1) وكأنه سيقتل نصف أو ثلث السكان، ومع الإجراءات الاحترازية التي أخذتها البلاد بإخضاع 11 مدينة للحجر الصحي، فإن هناك ما يشبه الهوس في البلاد بجمع الاحتياجات المنزلية من الأسواق تجهُّزا لفترة بيات طويلة.

الأسوأ من ذلك هو حالة العنصرية الشديدة التي اجتاحت إيطاليا، بل والعالم أجمع. أصبح الناس مهووسين باصطياد الناقل الرئيسي الذي أدخل المرض للبلاد، ونستخدم لفظة(2) “اصطياد” لأنها شائعة بالفعل الآن في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الإيطالي، الصينيون في أوروبا كلها يتعرضون لموجة عنصرية جديدة باعتبار أنهم السبب في تلك المصيبة، بل والأفارقة أيضا، لمجرد أنهم هناك على أية حال.

لكن لو تأملت الأمر قليلا لوجدت أن كورونا الجديد لا يمكن بحال مساواته بالطاعون الأسود الذي قتل 30-50% من المصابين، لا يمكن حتّى -إذا تحدثنا عن نسبة الوفيات- أن نقارنه بسارس الذي قتل 10-11% أو ميرس الذي قتل 34% من مصابيه، في تلك النقطة دعنا نتأمل دراسة(3) صدرت من المركز الصيني لمكافحة الأمراض واتقائها قبل عدة أسابيع، إنها أكبر دراسة عن كورونا الجديد إلى الآن، فقد بُنيت على بيانات قرابة 72 ألف حالة مؤكَّدة.

جاءت نتائج تلك الدراسة لتقول إنه -على عكس ما بدا للوهلة الأولى- فإن كورونا ذو أثر متوسط على أكثر من 80% من الحالات، بالضبط كنزلة برد طبيعية فما أقل، مع 14% من الحالات قُيّمت على درجة من الخطورة، وفقط نحو 5% من الحالات التي تُعَدُّ حرجة، ومنها تخرج الوفيات، وهي في معظم الأحوال تكون موجودة بالمستشفى.

أضف إلى ذلك أن الفيروس لم يتسبّب في أية حالات وفاة في الأطفال(4) تحت تسع سنوات إلى الآن، ونتحدث هنا -بحلول يوم الثامن من فبراير/شباط- عن مئة ألف حالة، على الرغم من إصابات الأطفال في سن صغيرة جدا تصل إلى عدة أيام، كذلك فإنه بدا واضحا أن نسبة الوفاة ترتفع مع ارتفاع عاملين، الأول هو السن، كونك أقل من 40 سنة يجعل الاحتمال أقل من نصف في المئة، ويرتفع مع حلول الثمانينيات من العمر، والثاني هو الأمراض المزمنة، كالسكري أو الأمراض القلبية الوعائية كالضغط وقصور القلب وغيرها.

  • الثوم يقتل مصاصي الدماء فقط

في الواقع، تطور الأمر الخاص بهلع كورونا إلى ما هو أبعد من ذلك، في الولايات المتحدة مثلا(5) انتشرت نماذج عجيبة لقناعات الناس عن كورونا الجديد، تبدأ من اعتقادهم أن طردا قادما من الصين يمكن أن يتسبّب في الإصابة بالمرض وتصل إلى جدل مجتمعي على تويتر وفيسبوك حول الأخطار المحتملة لطلب “طعام صيني” من المطاعم، وربما يجب أن نُشير هنا إلى اعتقاد آخر عجيب يقول إن أكل الثوم يساعد في التخلص من كورونا الجديد!

لكن الشائعة الأكثر انتشارا في العالم كله، بما في ذلك الوطن العربي، كانت دائما متعلقة بأن كورونا الجديد هو فيروس مُخلَّق معمليا في حرب الولايات المتحدة ضد الصين وإيران، وإلا فلِمَ هما أكثر الدول في عدد الإصابات؟ ورغم أن العلاقات السياسية والاقتصادية الوطيدة بين الصين وإيران تُفسِّر حجم الانتقالات الكبير بين الدولتين، ورغم أن إيطاليا مثلا أصبحت حاليا في المركز الثاني بعد الصين، فإن أحدا لم يهتم بذلك، واستمرت القناعة بنظريات المؤامرة على أية حال.

ليس ذلك جديدا، لو تأملت اقتراع مؤسسة يوجوف(6)، وهي شركة دولية مختصة بأبحاث الأسواق ومقرها في المملكة المتحدة، حول أسباب انتشار فيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV) لوجدت أن 9% من الفرنسيين ونسبة مشابهة من الألمان و16% من الإسبان -على سبيل المثال- يعتقدون أن هناك منظمة عالمية سرية تتحكم في نشر هذا الفيروس لأغراض سياسية واقتصادية بعينها.

أما بالنسبة للأميركان فإن 1 من كل 5 منهم كان يعتقد، قبل عدة أعوام، أن زيكا، الفيروس الذي ينتمي إلى عائلة “الفيروسات المُصفرة”، وينتقل بواسطة لسع البعوض الزاعج، هو سلاح بيولوجي(7) يُستخدم لأغراض سياسية، الأغرب من ذلك هو تصوُّر هؤلاء أن البعوضة مهندسة جينيا لحمل الفيروس ونشره بين الناس، كان ذلك عقب أحداث 2015 و2016 حينما انتشرت “حمّى زيكا” في المكسيك وأميركا الوُسطى ومنطقة البحر الكاريبي وأميركا الجنوبية.

  • نظرية المؤامرة

لكن الأكثر لفتا للانتباه ربما هو نظريات المؤامرة المنتشرة بكثرة في وسائل التواصل الاجتماعي العربي، والتي تقول إن كورونا الجديد هو مرض تافه، مجرد فرقعة إعلامية، دُفع في سبيلها مليارات الدولارات، الغرض منها إيقاع الصين اقتصاديا، الفيروس -كما تقول النظرية- قتل فقط نحو 4000 شخص، لو تأملت عدد قتلى حوادث السيارات عالميا والتي تتخطى حاجز المليون فرد أو عدد القتلى بسبب الإنفلونزا الموسمية، ويساوي عشرات الآلاف سنويا، لاستنتجت أننا أمام مؤامرة.

لفهم مدى الخطأ في تلك الفكرة دعنا نقارن بين نِسَب الإصابة بفيروس كورونا الجديد والإنفلونزا الموسمية، في الولايات المتحدة على سبيل المثال قتلت الإنفلونزا الموسمية(8) نحو 18 ألف شخص، لكن ذلك كان بسبب أنها تصيب 32 مليون شخص، نسبة الوفاة في الإنفلونزا الموسمية هي 0.1%، أما بالنسبة لكورونا الجديد فإن نسبة الوفاة هي نحو 2-3%، لو أن 32 مليون شخص أُصيبوا بكورونا الجديد لوصلت أعداد الوفيات إلى مليون شخص وأكثر، هذا ولم نُضف بعد الأعباء الخاصة بالرعاية الصحية -إذا أصبح كورونا الجديد جائحة- مما سيقلّص قدرة الدول على تقليل نِسَب الوفاة، فترتفع.

عدد قتلى حوادث السيارات عالميا هو أكثر من مليون شخص، لكن ذلك يُحسب(9) بمتوسط 25-35 فردا لكل 100 ألف آخرين، ثم يُضرب في عدد سكان العالم. إذا قمنا بحساب الأمر نفسه بفرض أن كورونا الجديد سيُصيب مليار شخص فقط، وليس العالم كله، فإننا نتحدث عن قتلى بين 20 و30 مليون شخص، وإذا حدث وأصاب العالم كله لوصل العدد إلى 100-200 مليون شخص فأكثر، وهذا عدد هائل بالطبع.

لكن المشكلة الأكبر الآن -والتي لا تُشير إليها منشورات التواصل الاجتماعي- هي أننا نعرف الكثير عن الإنفلونزا الموسمية، نعرف مواعيدها ونِسَب الوفيات والأعراض وطريقة الانتقال ويمكن بدقة أن نتوقّع عدد المصابين، أما بالنسبة لكورونا الجديد فإن المعلومات عن كل تلك المعايير تتغير بشكل يومي، منذ أقل من أسبوع فقط أصبحنا نعرف أن أكثر الأعراض انتشارا هي الحمى ثم السعال الجاف ثم حالة الإرهاق الجسدي الشديد، إلى جانب أعراض نزلات البرد العادية، لكن نسب الإصابة المتوقعة غير محسومة بعد، وعلى الرغم من أن منظمة الصحة العالمية(10) كانت قد أعلنت أن كورونا الجديد لم يصل بعد إلى مرحلة “الجائحة” (Pandemic)، أي إنه أصبح فعليا وباء منتشرا في كل دول العالم، فإن ذلك محتمل.

  • أخبار كاذبة

لفهم تلك الفكرة دعنا نتأمل أحد الاصطلاحات المهمة من عالم الصحة العامة، إنها “الدلالة آر” (r-nought) صاحبة(11) الرمز الأشهر “R0″، والذي يُشير إلى عدد الأشخاص الممكن إصابتهم بالمرض بسبب شخص واحد مصاب خلال مدة حضانة المرض، بالنسبة للإنفلونزا الموسمية فإن هذه الدلالة تساوي 1.3 شخص، أما بالنسبة للكورونا الجديد فيعتقد العلماء من كلية لندن الملكية أنه قد يصل إلى 4.5، وهدف الصين وكل دول العالم الآن هو تقليله لرقم أقل من 1، لأن ذلك يعني أنه سيتوقف عن الانتشار بعد فترة.

تقليل هذا الرقم ممكن عبر عدة آليات، منها أن نستخدم الأدوية والأمصال، لكن ذلك للأسف -حتّى اللحظة- غير ممكن، لا يوجد علاج للفيروس، لذلك فإن الخطة الرئيسية إلى الآن هي العزل، تقوم الدول بعزل المصابين في المستشفيات، وعزل المدن المصابة في الحجر الصحي بغلق الطرقات ومنع الدخول إليها أو الخروج منها.

هناك الكثير من العلم الخاص بكورونا الجديد، بيانات مؤسسات مثل منظمة الصحة العالمية (WHO) أو مراكز مكافحة الأمراض واتقائها (CDC) تصدر بشكل يومي وتؤهلك، كمواطن عادي، لمقاومة الفيروس بأفضل صورة ممكنة، لكن الناس للأسف لا يستمعون إلى مصادر كتلك ويغوصون، في المقابل، في بحور منصات التواصل الاجتماعي المكتظة بالأخبار الكاذبة، وهم إما مرتاع أو مطمئن تماما، وفي الحالتين فإنك على شفير الخطر.

كل المطلوب هو درجة من الحذر، الأمر ليس طاعونا، لكنه ليس نزلة برد، ويجب أن نتعامل معه على هذا القدر لا أكثر ولا أقل، في حالات كتلك يُفضّل اتباع الإجراءات الوقائية باهتمام، أشياء كغسيل اليدين بالماء والصابون بشكل متكرر، 20 ثانية في المرة الواحدة، أو تجنّب الازدحامات الكبيرة قدر الإمكان، أو تجنّب لمس وجهك قدر الإمكان، أو البقاء في المنزل مع ظهور أعراض البرد، ستُجنّبك كثير من المشكلات بصورة لا تتصورها، في دراسة صدرت من معهد ماساتشوستس للتقنية قبل عدة أسابيع(12)، يقيم الباحثون أنه بالتزام المسافرين بقواعد غسيل اليدين الصحيحة سيتجنّب العالم كله الجائحة بنسبة 70%.

  • نظرية المؤامرة أخطر من كورونا

أما مع انتشار الأخبار الكاذبة فإننا نزيد الطين بلة، يمكن في تلك النقطة أن نتأمل دراسة(13) صادرة مؤخرا من المؤسسة الوطنية البريطانية للصحة العامة تقول إن انتشار الشائعات والأخبار الكاذبة في أثناء حالات الطوارئ الوبائية ترفع من نسب انتشار الوباء نفسه بصورة غير مسبوقة، حيث يلجأ الناس لسلوكيات ضارة، وتجد تلك الحالة من التضليل فرصا أكبر للانتشار كلما فقد الناس الثقة في الحكومات أو مُقدِّمي الرعاية الصحية، وهو الشائع في حالات كتلك.

الأسوأ من ذلك هو أن الناس يكونون أكثر تجهُّزا لتقبُّل نظريات المؤامرة، جاء في الدراسة أن 40% من البريطانيين، على سبيل المثال، مستعدون لتصديق نظريات المؤامرة في ظروف كتلك، وبتأمل السياسات التي اتخذت لضبط انتشار الأخبار الزائفة، وتوعية المواطنين ضدها، في حالات كالإنفلونزا أو الجديري، فإنه كان واضحا أن الدول أو المنظمات التي اتَّبعت تلك السياسات شهدت انخفاضا ملحوظا في انتشار الإصابة بها.

إحدى أكثر القصص دفعا للتأمل هنا قادمة من العام 1350 ميلادية، فبينما كان الطاعون الأسود ينتشر قادما من آسيا، مارا بالوطن العربي، ثم ضاربا أوروبا، اعتقد المسيحيون في أوروبا أن هناك نظرية مؤامرة(14) ما، حيث كان اليهود، كما بدا لهم، أقل إصابة بالطاعون، دفع ذلك بالمسيحيين لفكرة تقول إن اليهود مسؤولون عن تسميم الماء الخاص بهم، وبدؤوا -بناء على هذا الاعتقاد- في تتبع اليهود وحرقهم!

حسنا، فقط قِف بين نقطة الهلع ونقطة الاطمئنان الشديد، التزامك بالقواعد المتبعة في ظروف كتلك كفيل بإنقاذك وإنقاذ مَن تحب، ولا حاجة إلى المزيد من الهلع، لو تأملت وسط التواصل الاجتماعي العربي خلال الأسابيع القليلة الفائتة لوجدت أن الأكثر انتشارا هي أخبار كاذبة تقف على النقيض تماما من مصالح الناس، فبين التهويل الذي يُفقدهم الثقة في الإجراءات المتبعة، أو التفريط الذي يدفعهم لإهمال تلك الإجراءات، يمكن أن نفقد الكثيرين ممن كان من الممكن إنقاذهم، خاصة أن كورونا الجديد قد ظهر بوضوح في عدة دول عربية، ويُعتقد أنه لن يتوقف عند هذا الحد، وبالتالي فإن الأخبار الكاذبة وفوضى المؤامرات لن تتوقف أيضا، لكن الأخيرة في بعض الأحيان تكون أخطر من كورونا نفسه.


شادي عبد الحافظ – مصر 


مراجع المقال:

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى