علوم سياسية

في أمراض العمل السياسيّ العربيّ

 

آثَرَ المفكّر المغربيّ عبد الإله بلقزيز في مصنّفه الأخير “نقد السياسة في أمراض العمل السياسي” (المركز الثقافيّ للكِتاب 2019) استنطاق الظاهرة الحزبيّة العربيّة ووضعها على محكّ النقد في مستوياتها الفكريّة والعمليّة والتنظيميّة، مركِّزاً على ما يجمع بين الأحزاب العربيّة: الشيوعيّة، اليساريّة، القوميّة، الإسلاميّة، من قواسم مُشترَكة، وذلك بالاستناد إلى مَناهج التحليل السياسيّ والنقد المعرفيّ: نقد الفرضيّات والمُنطلقات.

وفي تشخيصه لأسباب الاعضال الذي بات يفتك بالعمل السياسي العربي، يركِّز عبد الإله بلقزيز على ما أسماه باليأس السياسي، الذي يجلو عن أزمة سياسة واضحة المَعالم لبناتها الرئيسة على المستوى الفكري: الدوغمائيّة والقصوويّة Maximalisme والدعويّة والعدميّة، وعلى المستوى العَملي: الشعبويّة والانتهازيّة والعنف السياسي، وعلى المستوى التنظيمي: المركزيّة البيروقراطيّة والانشقاق الحزبي والعفويّة، وما تسفر عنه من سلطة استبداديّة ديكتاتوريّة تضيِّق الخناق على الأخلاق السياسيّة وتَنبذ الآخر المختلف، وتُفاقم أسباب التشرنق النرجسي على يقينيّات الذّات.

نحن مُطالَبون اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بنقد السياسة لا نقد السلطة؛ أي تشييد وِرَش فكريّة نقديّة تهتمّ بالنظر في السياسة على مستوياتها وتجلّياتها كافّة، بالقدر نفسه الذي يُنظر فيه إلى العمل الحزبي على أنّه لبنة كلّ سياسة في كلّ مجتمع إنساني؛ ” أمضينا زمناً طويلاً لم نعرف فيه من نقد السياسة سوى نقد السلطة، أي نقد السياسة حين تُمارسها نخبة حاكِمة، فيما أشحنا النَّظر عن نقد سياسة القوى الاجتماعيّة والحزبيّة: المُعارِضة والموالية، وتجاهلنا الحاجة الحيويّة إليه بما هو (=النقد) إرادة تصويب وتصحيح وإعادة بناء” (عبد الإله بلقزيز، نقد السياسة في أمراض العمل السياسي).

ومن أجل ذلك وجب مواجهة الدوغمائيّة، التي تتّخذ في حالاتٍ عدّة ” شكل نزعة نصيّة مَرضيّة؛ ويُراد بهذه الحالة من التمسّك الإدماني الأعمى بالنصّ، أن يكون مُستودع الحقيقة والمرجع المتعالي الذي يتمّ الرجوع إليه، ويُكتفى بمنطوقه، ويُحسم بحجّته. وقد يكون النصّ هذا دينيّاً أو بشريّاً: إلهيّاً أو نبويّاً واجتهاداً” (المرجع السابق نفسه).

ليست هذه النزعة حكراً على الفكر والثقافة والدّين، فهي تشمل أيضاً مجال الفعل والمُمارسة السياسيَّين، الأمر الذي يأذن بانحطاط السياسة وتحنّطها، بيد أنّ قوام العمل السياسي هو الواقعي اليومي النسبي المتغيّر، بينما مجال النصّ هو التسليم واليقين والثبات؛ ” إنّ علاقة السياسة بالواقع هي علاقتها بمرجعها الذي به تكون وتتحدَّد، وهذه العلاقة هي ما يؤسِّس صلة السياسة بالنصّ أي يدفعها نحو نَوعٍ من النصوص دون أخرى تجيب لها عن حاجات في ذلك الواقع، ويدفعها نحو نَوع محدَّد من تمثُّل النصّ وفهْمٍ متناسب والمطالب – المُعلنة المُضمَرة- الدّافعة إلى ذلك التمثل” (المرجع السابق نفسه).

تعمل الدوغمائيّة على تشييد العمل الحزبي على لبنات التمسُّك بالثوابت الفكريّة والأخلاقيّة، أي التمسّك بالنصّ بوصفه مصدراً للحقيقة ومرجعيّة للعمل السياسي، ومن ثمّة مُعاداة الواقع الذي يعتبر نواة العمل السياسي؛ والدوغمائيّة مُمارسة للسياسة بمنطق عقائدي، إذ تنظر للسياسة بوصفها ترجمة عمليّة لفكرة عليا متجسِّدة في نصّ: ” إن سلطة النص تتغذّى من ضعف سلطة الواقع في وعي تلك النخب، وإنّ الضعف هذا هو، بالذّات، مفتاح ظاهرة الفقر الفادح في معنى السياسة عندها”(المرجع السابق نفسه).

تحتلّ التقاليد مَكانة مهمّة في الدراسات التي تهمّ المنظومة السياسيّة العربيّة المُعاصرة، حيت تظهر كمعيارٍ من الضروري الاعتماد عليه بالنسبة إلى الشخص الذي يبحث عن الوصول لفهْم المحرِّك التاريخي للفشل السياسي، وتفسير سلوك المنظومة السياسيّة العربيّة. من بين هؤلاء نجد “جون واتيربوري” الذي عمل على تفسير سلوك النخبة السياسيّة في المغرب في علاقتها بإرثٍ مزدوج ” القبيلة” و”المخزن”. فحسب “واتيربوري”، فإنّ ممثّلي النخبة السياسيّة المغربيّة يتصرّفون وفق طريقة تتوافق مع المعايير والقيم التقليديّة البدويّة وخارجة عن إرادة الفاعلين السياسيّين ووعيهم.

كما أكَّد أنّ التجارب التي طبّقتها مجموعة من الباحثين لدراسة القبيلة في الشرق الأوسط يُمكن أن تساعدنا على فهْم ردود الأفعال الاجتماعيّة والسياسيّة التي تخصّ المنظومة السياسيّة المغربيّة، حيث ظهر تشابهٌ واضح بين الجمود الداخلي الذي يخصّ القبيلة في الشرق الأوسط وبين الجمود الذي يميِّز المنظومة السياسيّة المغربيّة (راجع: Hassan rachik, « Le fantôme de la tribu : politique et tradition », revue maghrébine du livre trimestrielle 29/30-printemps 2004).

فالرجوع إلى النظام التقليدي بحسب “واتيربوري” هو شيء ضروري ولا يُمكن تفاديه، الأمر الذي دفعه إلى تخصيص فصل من كِتابه “أمير المؤمنين” (ترجمة عبد الغني أبو العزم، 2004) للسياق الاجتماعي، حيث يعرض فيه الخصائص المُشتركة بين النظام الانقسامي القبلي والنّخبة السياسيّة المغربيّة.

هذا المعطى الذي أكَّد عليه واتيربوري يعترض أيّ باحث يسعى إلى دراسة النّخبة السياسيّة المغربيّة بشكل خاصّ والعربيّة بشكل عامّ، إذ يجد نفسه مرغماً على تخصيص جزء مهمّ من دراسته لفهْم البنيات القبليّة، وبالتالي الانتقال من دراسة النّخب السياسيّة إلى دراسة البدوقراطيّة.

للأحزاب المغربيّة بنية شبيهة ببنية القبيلة ذات الثقافة العرفيّة (دستور القبيلة)، وتوظَّف هذه البنية من قِبل القبيلة كما توظَّف من قبل الأحزاب بغية إرساء أمرَين أساسيَّين: تعيين الهويّة المحليّة التي تميّز تشكيلاً قبليّاً عن آخر، وإنتاج نمط من التحكيم (الحكم أو الحكومة) يرأسه شيخ القبيلة ويديره مدى حياته، وغالبا ما يورِّثه لأحدٍ من أبنائه (الابن البكر). هذا الإيلاف القبلي للنّخبة السياسيّة لا يُنتِج ثقافة سياسيّة بالمعنى الحديث بقدر ما يُنتج حُكماً حصريّاً أو حاصراً ينفي التعدّد والمُشارَكة في سلطة القرار طالما أنّ هذه السلطة تقوم على مؤسّسة العائلة المشيَّدة على ثقافة الحاكِم الواحد، وبالتالي ثقافة اللّاثقافة وحزب اللّاهويّة. وفي حال سعى المُتعدّد إلى إنتاج ثقافة وهويّة خارج مرجعيّة الواحد القبلي، يُقابَل بالاضطّهاد والرفض والتهميش.

عموماً يُمكننا تلخيص القواسم المُشتركة بين النّخب السياسيّة المغربيّة والنّظام القبلي البدوي في ما يلي:

* آليّة الانشطار والاندماج كمبدأَين ضروريَّين للحفاظ على التوازن السياسي.

* مفهوم الهويّة المرتبط بالوضعيّة، فالفرد لا يتحدَّد إلّا بالنسبة إلى وضعيّة معيّنة، أو فئة معيّنة. وبما أنّ الوضعيّات تتغيّر باستمرار، فإنّ الهويّة تتغيّر بدَورها؛ حيث تنشأ داخل الأنساق الانقساميّة (في أغلب الأحيان) تكتّلات وتحالفات تابعة لترتيب الجماعات السلاليّة المُنحدرة من الجدّ الواحد. ويُمكن للفرد الواحد أن يوجَد داخل شبكة من التحالفات المُتشابكة والمُتعارضة في ما بينها، حيت تُمارس عليه تأثيرات مُتناقضة إلى درجة أنّها قد تؤدّي به إلى الشلل التامّ. لنأخذ مثلاً، فرداً ينتمي إلى قبيلة مغربيّة نجد أنّه ينتمي إلى فئة ذات نَسب، لها مُنافَسة مع أنساب أخرى. لكنّه ينتمي في الوقت نفسه وعشيرته إلى لفّ يسعى إلى استقطاب الصراعات على مستوى المنطقة، ولا يمنع هذا من أن تكون العشائر المُتحالفة داخل اللّف متصارعة في مستوى السلالات. أضف إلى ذلك أنّ الفرد نفسه يُمكن أن يُشارك في أحلاف محليّة ضيّقة تهتمّ بالإشراف على حقوق الريّ وتوزيع الماء…إلخ، وتتداخل مع العلاقات السلاليّة والانتماء إلى اللّف.

* ينحدر مفهوم الصداقة من المفهوم السابق؛ حيث يُمكن للشخص أن يكون عدوّاً أو صديقاً بحسب الظروف. وبما أنّ هذه الأخيرة دائمة التحوّل، فإنّ مَشاعر الصداقة والعداوة تميل إلى السطحيّة والصفة التعاقديّة. ففي الوقت الذي تحافظ فيه الأنساق الانقساميّة على الوضع القائم، تتميّز الوحدات المكوِّنة لها، بحركة دائمة من الابتعاد والانجذاب، كأنّها جُزيئات تلتحم بجاذبيّة احتكاكها. وتُصبح التحالفات عديمة الاستقرار على العموم، ويسودها نَوع من النسبيّة الأخلاقيّة، لأنّ حلفاء اليوم قد يصبحون أعداء الغد، لأنّ الأعداء الألدّاء هُم قلائل كما بالنسبة إلى مَن هُم أصدقاء مدى الحياة.

* بسبب عدم استقرار الأوضاع وحركيّة الفاعلين، فإنّ رجل السياسة مُطالَب بالاستعداد لكلّ الاحتمالات، ومعناه أن يتكهّن بمَن سيكون صديقاً أو عدوّاً في كلّ الحالات المُمكنة. فلا يجوز إذن أن تُمنح الثقة لفرد واحد، أو فصيل واحد أو قضيّة واحدة، لأنّ ذلك قد يتسبَّب في كارثة حقيقيّة. بل الأضمن أن يُعدِّد رجل السياسة تحالفاته؛ حيث يسعى كلّ واحد إلى مضاعفة تحالفاته، بدءاً ربّما بقرابته لتأمين دفاعه، وتأمين أكثر ما يُمكن من إمكانيّات التدخّل (أو عدم التدخّل على السواء). وليس من الضروري أن يكون هنالك هدف مباشر من وراء هذه التحالفات، بل هي بمثابة استثمارات على المدى البعيد، تستوجب اللّعب على كلّ الواجهات لمُواجهة كلّ الاحتمالات. يملي هذا النهج الحذر والتحفّظ الذي يَستلهم في الواقع كلّ أنواع النشاط الاجتماعي والسياسي، شعوراً حادّاً بنسبيّة كلّ انتصار، ونسبيّة كلّ صداقة أو عداوة معاً.

* تؤدّي المبادرة وطريقة المُخاطرة والجرأة إلى العزلة بمجرّد أن يطرأ تحوّل على الأوضاع القائمة؛ لذلك فمِن الأفضل ألّا يُغامر الفرد أو يتحالف مع ذوي الجرأة. وتغدو المناورات الدفاعيّة، والتكتيكات الأساليب الوحيدة التي بالإمكان أن توصف بالتعقّل.

* “تتعدّد الوسائل للعثور على الحلفاء وتأمين وفائهم، غير أنّ الديون الماليّة أو المعنويّة تظلّ في نهاية الأمر من أنجع السبل لتوطيد شبكات الأحلاف ذلك أنّ المدين، يكون مرغماً على التحالف مع دائنه ولا يُمكنه أن يصبح عدوّاً له بسهولة. تُعتبر علاقات الالتزام معقّدة ومتعدّدة الأشكال في المغرب وكلّ مغربي يلتزم بمساعدة أعضاء عائلته وأقربائه والاعتراف بالجميل لكلّ مَن أحسن إليه ومن الصعب جدّاً على الأجنبي أن يُدرك ألغاز كلّ القواعد الضمنيّة التي تحدِّد درجة التزام كلّ فرد وما يستحقّه من جزاء عند تجاوزه قواعد اللّعبة وغالباً ما يبرِّر المَغربي سلوكه بقوله: لم أستطع القيام بكذا لأنّ فلان عمّ زوجتي أو لأنّه توسَّط لي للحصول على منحة لابني” (جون واتيربوري، م س).

المهدي مستقيم: أستاذ وباحث من المغرب

 

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى