تربية وتعليم

خريف الجامعة

على ربوع هذا الفضاء الفسيح من العالم العربي، قلما يتفق الفاعلون، من أي المشارب كانوا، كما يتفقون على أهمية التربية، ودورها في النهضة. وقد ترسخ هذا الشعور منذ أن نشرت الأمم المتحدة تقريرا عن واقع التنمية البشرية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، سنة 2002.

وقد تسمع الخطاب ذاته بعد «الربيع العربي» حول أولوية التربية. وهنا ينتهي الاتفاق، لأن الفاعلين والمختصين والمهتمين، يذهبون جميعهم طرائق قِددا حول الأولويات والكيفية و»الأجرأة»، كما نقول بالمغرب، والتنزيل بالمشرق.

مناسبة هذا الحديث، مقال لباحث مغربي أمريكي يُدرّس في جامعة جورج مايسن الأمريكية هو محمد الشرقاوي، رسم توصيفا كابيا، بل قاسيا للجامعة المغربية، توارى فيها ليس العلم وحده، بل الأخلاق، وهو الأمر الذي أثار حفيظة الهيئة الأكاديمية بالمغرب.

ولكن بغض النظر عن الحكم القاسي، والتجني المجاني على هيئات التعليم، من إدارة وأساتذة وطلبة، ومنهم إداريون أكفاء نزهاء، وجامعيون متجردون، وطلبة مجدون ومثابرون، هناك واقع حال، وهو وضع بنيوي، يجعل الجامعة تتعثر، وتتعثر في دوامة من إصلاح الإصلاح، وطقوس الإصلاح، مما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بالوصفة القاتلة للإصلاح.

قد يكون لكل بلد خصوصيته، ومشاكله، وإنجازاته، لكن الجامعة في العالم العربي، وهي حلقة أساسية من حلقات التعليم والتربية، ليست على ما يرام.

أول الأشياء أن عالم التربية في العالم العربي، لم يفض إلى تراكم معرفي، باستثناء التقارير التقنية والكتابات التقريرية، أي أنه لم يفرز مربين لهم تصور لمجتمعاتهم، عدا الرواد الذين وئدت جهودهم، ويأتي على رأسهم طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» وفاضل الجمالي في العراق وقد أنجز ثورة ثقافية فيها قبل أن يحكم عليه بالإعدام.

ولربما محمود المسعدي في تونس، ومصطفى لشرف في الجزائر ومحمد عابد الجابري في المغرب. وهؤلاء جميعهم كان لهم تصور لبلدانهم ومجتمعاتهم، ولم يستطع أي واحد منهم أن يذهب بعيدا في الإصلاح، لعراقيل ووجهوا بها، ولا أن يجد من يحمل عنه المشعل. وما عدا هؤلاء الأساطين الذين طرحوا السؤال عن الغاية المتوخاة من التربية، فلا نجد إلا لغة جافة من لغة الأرقام والنقل غالبا.

وثاني الأشياء، أنه لا يمكن جعل التربية أولوية شعارا، والإزراء بها فعلا، ذلك أنه لا يمكن الارتقاء بالتربية حين يذهب الإنفاق العمومي أغلبه إلى الأمن والتسليح. والحال أن التربية تحظى بالأولية في الخطاب فقط، لفائدة الأجهزة الأمنية فعليا، حتى أضحت الخبرة الوحيدة في العالم العربي، التي له فيها تمييز تفضيلي،

كما يقول الاقتصاديون، هي الأمن، حتى صارت الأجهزة الأمنية هي مجال التحديث الناجح… ومرد هذا الإغراق في الإنفاق الأمني العلاقة المتشنجة بين الحاكم والمحكوم. وليست الأجهزة الأمنية في الغالب في خدمة المجتمع، ولكن الأنظمة بالأساس.

ثم إن العلاقات البينية موترة في الغالب، ما يصرف إلى نفقات التسليح، ورواتب الجيوش، والحفاظ على العتاد الحربي… بناء جامعة، يظل ثانويا حينها. وحينما تقام الجامعة، تبنى الأسوار فقط، إذ الجامعة، كما العبقرية حسب الجملة المأثورة لغوته، صبر طويل، وقد حسبت بعض الدول أنها بشراء «ماركات» لجامعات يمكنها أن تبني جامعة.

وثالث الأشياء أن أدواء الجامعة في الغالب الأعم، توجد خارج المسار الذي يبدأ فيه الطالب دراسته، والأستاذ تدريسه. جزء كبير من مشاكلها، يأتي قبل أن يغشى الطالب الجامعة. يأتي الطالب عادة من غير زاد لغوي (أو عتاد كما يقال اليوم)، يتيح له أن يستزيد المعرفة، ومن دون ثقافة، ومن دون سرد كبير، أي من دون رؤية مجتمعية، ومن دون أدوات معرفية، من حس الملاحظة، والنقد، والجمال، همه هو النجاح، من خلال اكتساب مهارات، مثلما يقال،

ولا ضير أن تكون الوسيلة هي الغش. أما المشاكل الأخرى التي توجد خارج الجامعة، فمنها ضعف فرض التشغيل، وهو ما ينعكس سلبا على التحصيل، مما لا يستحث الطالب. ويشكو الأستاذ من النظرة الدونية للمجتمع، فيُسقطها على الطالب، ولذلك من العبث الإصلاح من داخل الجامعة، إن لم يتم تغيير محيطها.

لا يمكن الارتقاء بالتربية حين يذهب الإنفاق العمومي أغلبه إلى الأمن والتسليح

ورابع الأشياء، هو أنه لا بد للمجتمع من تمثلات، أو فلنقل بمصطلح مستقى من الثقافة العربية، من قدوة. يعرف المربون الجملة الشهيرة التي نطق بها فيلسوف غربي في القرن التاسع عشر: ومن يربي المربين؟ والحال أن النماذج الناجحة التي تُسوّق على أنها أمثلة تحتذى هل للاعبي كرة القدم، ولمغنين، وبعض من رجال الأعمال ممن اغتنوا في العقار بالأساس. ليس للأجيال الحالية نماذج تأتمُّ بها، كما كان لسابقيها، في السياسة، كما في الفكر والأدب والفن والعلوم..

منطق الأشياء لمن يروم الإصلاح أن يبدأ من البداية، أي من التعليم الأساسي، ولكن ذلك متعذر، ومكلف، ويتعين من منظوري البداية من الجامعة. وقد يتحتم اللجوء إلى ما يسمى بالعلاج بالصدمة، أي أن تخضع الجامعة للصرامة في الولوج إليها من قِبل الطلبة كما الأستاذة، وفرض قواعد صارمة في مسار الدراسة.

حسب البعض، كما هو الحال في المغرب، أنه بإطلاق عنان القطاع الخاص، أو بجامعات نخبوية يمكن التغلب على أدواء الجامعة، وتقديم عرض مغر، والحال أن المغرب بدأ تجربة قبل زهاء ربع قرن على النمط الأمريكي، ولم تسعف تلك التجربة في أن تكون قاطرة، ولا أن تستجلب باحثين كبارا ولا طلبة خارج المغرب، ولذلك أضحت عبئا، مكلفة ماديا، ومنغلقة اجتماعيا.

والنتيجة هي انشطار بين منظومتين تربويتين متنافرتين، عوض أن تكونا متكاملتين. من الطرائف المضحكة المبكية، هي أنني في كل أسبوع أمر أمام مبنى بالكلية كُتب عليها بالفرنسية كلمة خزانة، وكان ما يثيرني هو الخطأ الإملائي للعلامة على أحد الحروف، ولكن المشكل ليس هو الخطأ في رسم كلمة، في لغة أجنبية، المشكل هو وجود بناية الخزانة، ولكن من دون كتب… ومن مؤشرات الاضمحلال عدم تطابق العضو والوظيفة.

فما يسمى جامعة ليس جامعة، والتعليم ليس تعليما، والمربي ليس مربيا، والخبير ليس خبيرا.. لا بد أن نتفق عن معنى الأشياء، وتحديد المفاهيم والحالة هذه أمر ضروري. لكن أين نحن من هذا حين يسأل متعلم، مثلما قرأت في مقال من صفحة الرأي على متن هذه الجريدة، هل التاء المربوطة بثلاث نقاط؟ رُفعت الأقلام وجفّت الصحف.

حسن أوريد

كاتب أكاديمي مغربي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط وببوردو.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى