منبرُنا

أم كامل

 

جرّب أبي – رحمه الله – في مسيرته العملية أنواعاً مختلفة من السيارات، من أصغرها (التكسي) إلى أكبرها (شاحنة قاطرة و مقطورة) حتى الجرار (التراكتور). كما جرّب مختلف الماركات، من أجودها إلى أرذل الصناعات، فبحكم عمله كسائق حكومي و قبلها مالك جرار، و خلالها كمالك أو شريك لسيارة خاصة، كان من الطبيعي أن يتعلق بواحدة منها دون البقية، كذلك انعكس علينا نحن أفراد الأسرة و أولاد الحارة هذا الهيام، كل واحد يحب سيارة معينة أكثر من الأخريات، هذا يحب سيارة الجيب اللاندروفر الإنكليزية الصنع التي تشبه سيارات المباحث (المخابرات/المكتب الثاني)، و ذاك يحب سيارة الكراز الشاحنة الروسية الخضراء، بينما يحب أبي شاحنته الألمانية الجديدة القاطرة المقطورة (مان)MAN الزرقاء.

لم يحدث أن اتفقتْ القلوب على حبّ سيارة واحدة بعينها كما اتفقتْ على حبّ سيارة (أم كامل) الشاحنة المرسيدس الصغيرة الحقيرة المظهر الجرباء، قد تستغرب عزيزي القارئ هذه الحقيقة مع قبح منظر أم كامل سيارة البيك آب، لكنها الحقيقة التي عرفها كل من عاش أيام عزها في آخر السبعينيات و أول الثمانينيات، فعلى مستوى العائلة أحبها الجميع حتى أم ضياء (أمي) إذ كانت وسيلتها لقضاء زياراتها للأقارب في حلب و الضيعة على السواء، كذلك تعلمت أنا على صهوتها قيادة السيارات، حتى أخي الصغير عماد علمه أبي قيادتها فأصبح من أمهر السائقين، كانت أم كامل أيضاً رفيقة أبي في السراء و الضراء، في العمل و النزهات و في الكرم الأبيض و اليوم الأسود، حتى أولاد الحارة أحبوا اللعب في صندوقها تحت الشادر المتسخ الذي يزداد شقاءً و تمزقاً مع هزار الأولاد و تقلبات الزمن.

في يوم أسود بغيض سحبت إدارة المؤسسة العامة للحبوب – التي يعمل لديها أبي – سيارة أم كامل من الخدمة و أعلنت تقاعدها قبل موتها، بقي أبي فترة بدون سيارة لحين عهدوا إليه بسيارة (مازدا) شاحنة صغيرة بيك آب بيضاء حديثة من بلاد اليابان، فرحنا بها كثيراً كعروس في ثوب الزفاف، و نسينا حزننا على أم كامل الكالحة المتقاعدة قبل الأوان، جميعنا نسي حزنه على أم كامل إلا أبي الذي بقي شديد الولاء، قال لنا في أحد الأيام و الدموع تكاد تطفر من عيناه:

– أم كامل محبوبتي راحت اليوم إلى المطحنة.

لم نجد في الخبر ما يستدعي الاستنكار رغم تخصيص أم كامل لنقل العمال و الموظفين، فمن مهمات سيارات مؤسسة الحبوب الذهاب إلى المطاحن باستمرار سواءً لنقل الطحين و الحبوب أو العمال، بلعنا الخبر الساخن مع لقمات الطعام اللاهبة، لكن أمي انتبهت للفاجعة دوننا و سألت أبي دون أن تمدّ يدها إلى العشاء:
– ماذا، هل عدلوا عن بيعها و أعادوها للخدمة في المطاحن بدلاً من نقل العمال؟.

سحب أبي نفسه عن مائدة الطعام، أشعل سيجارة من نيران قلبه و رد بمزيد من الآلام:
– لا، باعوها اليوم في المزاد العلني و شطبوها من السجلات.
– لكنك أخبرتني بأنك ستشتريها مع صاحبك (أبو طلال).
تنهد أبي و لمعت عيناه، سحب نفساً كثيفاً من سيجارته “الحمراء” القصيرة و نفثه قائلاً:

– لا، لم نتمكن من شرائها بسبب دخول تجار قطع تبديل السيارات على الخط، لقد رسىٰ المزاد على أحدهم بعد رفع سعرها إلى ما فوق طاقتنا أنا و أبو طلال، المشتري متخصص في طحن السيارات و بيع أجزائها كقطع تبديل.

واسته أمي بلطيف العبارات، شاركناه أحزانه و عافت أنفسنا الطعام، قلنا بأسى:
– يعني أم كامل ستختفي عن عيوننا إلى الأبد؟
– للأسف يا أولادي، نعم ستختفي أم كامل محبوبة الكل عن الأنظار، و ستدخل في عالم النسيان.


قد أزعم أن أبي مات بحسرة فوات أم كامل من بين يديه، أزعم هذا لمعرفتي بشدة تعلقه بالرفيقة أم كامل حتى آخر رمق من حياته، كلما أتى ذكرها على مسامعه دمِعتْ عينه و اختلجت روحه، كنت محتفظاً بصورة للسيارة لم أتمكن من إنقاذها معي لأهديها لأبي، بحثت في الإنترنت عن صورة لسيارة من ذات الموديل و قلت لأبي: هذه أخت أم كامل، هل أنسخها لك على الورق؟

ابتسم أبي و قال لي: أم كامل بشقة (غير). ايش جاب القرد للغزال؟
تمعنت في صورة السيارة الجميلة – المرفقة أدناه – على صفحات النت، قارنتها بصورة أم كامل القبيحة التي تعيش في ذاكرتي، ثم رأيت عزوف أبي عن النظر إليها و نعتها بالقرد بينما أعطى أم كامل وصف الغزال، ضحكت في سري و عرفت معنى المثل القائل: القرد في عين أمه غزال 🦌.

ربما تناسى أبي حزنه على أم كامل في ذلك الوقت، فقد طغى عليه حزن أشد و أعمق، حزنُ فراق منزله و كرمه و حارته في حياته الجديدة كلاجئ قسري في بلاد الأتراك، حزن الشجرة التي تقتلع من جذورها فلا تنمو بغير أرض، كان حلمه الوحيد العودة إلى البيت و الحارة و الكرم و الحيارة في الوطن الحر الكريم بعد سقوط الطغاة، أقسمَ يميناً مغلظاً بأن يضحي بجمل بدل الشاة إن عاد، سقط أبي في أتون الحزن و مات غريباً في بلد غريب، ذبحه السرطان و لم يذبح الجمل.

شردتنا الحرب في مختلف البلاد و شرّدت أرواحنا في كل بقاع الأرض، حتى من بقي من الأهل في الوطن الذبيح يتعرض للتشرد و النزوح في كل حين، في كل نزوح للسوري موت جديد، كل قطعة عاش معها بعض الذكريات و أُرغم على تركها خلفه تنتزع روحه، أعرف هذا و أعيش آلامه و أنا أتخيل أحدهم يسطو على مكتبي و يحرق كتبي و ذكرياتي، أعرف هذا و أنا أرى قوافل النازحين في وطن كان لنا و صار للأغراب، يُرغم النازح على ترك روحه خلفه تحوم مع القذائف و الصواريخ و الطائرات، لعلها تحمي الدار فتسلَم من القصف، فتسلّم عليها و تنقل السلام للأحباب في الخيام..

مجرد عشرة عمر لمدة خمس سنوات أو أقل مع سيارة متهالكة ولّدتْ في نفس أبي حسرة للممات، فكيف بمن عاش العمر كله مع بيته و حارته و بلده ليجد نفسه وحيداً في الخيام؟.


جهاد الدين رمضان
في فيينا ١٥ شباط/فبراير ٢٠٢٠

*أم كامل اسم سيارة كان يعمل عليها أبي، أطلقه عليها رفاقه تشبيهاً لها لشخصية الممثل السوري القدير المرحوم أنور البابا التي اشتهر بها.

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى