الدراسات الأدبية

من يتذكّر جنكيز آيتماتوف؟

 

الذاكرة ظالمة.. تطوي الأشياء كمن يطوي فراشا عتيقا. من الكبار الذين شملهم بعض النسيان الروائي الإنساني العظيم جنكيز آيتماتوف TchinguizAïtmatov الذي عاش مدافعا عن الإنسان وعن حقه في الحياة وعن الطبيعة التي تحميه، قبل أن تتعرى فتموت، ويموت معها. جوهر كتاباته نضال الإنسان ضد طبيعة صعبة أمام حداثة زاحفة لا يمكن تفاديها على الرغم من قسوتها، ولا يمكن التسليم بها أيضا على علاتها المدمرة للإنسان.. هذا تحديدا رهان كل كتاباته الروائية.

ولد آيتماتوف في شيكر في قرغيزيا في 1928، وتوفي في 2008 في نورمبرغ في 10 جوان 2008. عاش ثمانين سنة، كانت كافية لأن يشيد من خلالها منجزا روائيا مميزا بعالميته وإنسانيته. ولأنه يؤمن بأنه لا عالمية بلا محلية، فقد أعطى لمنطقته كل الاهتمام الذي يليق بها، ارتبط بالحياة الصعبة للمنطقة التي عاش فيها وبميراثها العظيم الذي صنعته الأجيال لتحمل حياة شبه مستحيلة. شكلت الثقافة الشعبية البنية الأساسية لرواياته، فهي الأرضية العميقة والإنسانية لكل منجزه الأدبي الذي لا يمكن فهمه إلا بفهم هذا الميراث التحتي العميق، الذي وضع المجتمع القرغيزي وجها لوجه مع حداثة قاسية.

كانت المسافات بعيدة بين مجتمع متخلف وحداثة زاحفة بقوة، لدرجة يبدو فيها المشهد كاريكاتيريا مثلما حدث ذلك مع بطل روايته: المعلم الأول الذي يريد أن يغير الناس بسرعة باتجاه اعتناق أفكار المجتمع الجديد، بينما المجتمع ما يزال في بدائيته لا علاقة له بالعالم ولا بالمدرسة.

وعلى الرغم من تسيّد الإيديولوجية في فترة الحرب الباردة، التي لم ينج منها آيتماتوف، إلا أنّ رواياته اخترقت حاجز الحائط الإيديولوجي باتجاه ما إنساني ويهم البشر جميعا، إذ لم يبق رهين حاضر كان في مراحل الانهيار والتحول، كما في «يوم أطول من قرن» التي وضع فيها مصير البشرية في أفق التساؤل الوجودي. قوة آيتماتوف هي أنه جعل الإيديولوجية عندما تفرض وجودها عليه تنصاع للأدبي أولا وأخيرا، هذا ما ميزه عن غيره من كتاب الحقبة السوفييتية، فلم تسقط كتاباته في الشعاراتية السهلة والخطابية الممجدة القاتلة للأدب والأديب. بهذا الجهد والوعي الاستثنائي والإدراك العميق للنص، بوصفه قيمة جمالية متعالية على السهولة، تخطى آيتماتوف الحالة الإيديولوجية باتجاه مساحة إنسانية أكثر انفتاحا وأكثر جمالا أيضا، حمته من كل مخاطر الانزلاق، والروح القرغيزية التي ظلت تتبطن كل رواياته، بالخصوص «السفينة البيضاء» التي استنهض فيها الأساطير من خلال عيني طفل ينتظر سفينته البيضاء تأتي ولا تأتي، كانت بالنسبة إليه مثل حلم تأخر مجيئه. ليس عبثا القول بأن جائزة نوبل أخطأته ولم تعرف طريقه، مثلما أخطأت قبله الكثيرين، مثل جيمس جويس الذي غيّر الرواية العالمية بقوة. كان آيتماتوف من مستحقيها بامتياز، لكن الحروب الإيديولوجية التي طالت الثقافة والآداب شاءت غير ذلك.

كل رواية كتبها شكلت حدثا ثقافيا، تبعته نقاشات متناقضة بلا حدود. «وداعا يا غوليساري» تركتْ أثرا بالغا وقويّا في قرائها، إذ ربطت الإنسان بعلاقة وشيجة مع الحيوان: الحصان غولساري؛ فقد اشتغلت على الرابط الروحي بين الحصان وصاحبه، واستطاعت أن تكتم سرا غامضا في قرائها: كيف يكون الحصان كائنا عظيما ورحيما أكثر من الإنسان نفسه. الإنسانية ليست حكرا على الإنسان.

روايات «جميلة»، و«تفاحتي في منديل أحمر»، و«الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر»، وغيرها، أسهمت في تطور الشكل الروائي من واقعية جامدة إلى واقعية سحرية سبق فيها حتى كتاب أمريكا اللاتينية، لكن المركزية الأوروبية شاءت غير ذلك.

في مهرجان دمشق السنيمائي في 1979 فاز الفيلم السفينة البيضاء المقتبس من روايته بالعنوان نفسه، فقد سحر الجمهور بالفيلم والنص معا. لم يصدق ما كان يراه من أناقة سينمائية وجهد في القصة والتصوير، بالخصوص أن هذا الجمهور كان قد تعود على سنيما إيديولوجية تندرج ضمن منطق الحرب الباردة، ما قلل من جمالياتها، إلا استثناءات قليلة. واكتشف الجمهور الدمشقي يومها والعربي، من خلال مطبوعات دار التقدم التي كانت تصل إلى سوريا وقتها، هذا الكاتب الكبير والاستثنائي.

هي الدار نفسها التي كانت قد نشرت لكبار الكتاب المحليين مثل ليرمانتوف، وشولوخوف، وغوغول، وتشيكوف، وتولستوي، وديوستفسكي، وآيتماتوف، وغيرهم.

في كل جهوده الأدبية والديبلوماسية، ظل جنكيز آيتماتوف وفيا للإنسان كقيمة متعالية ولمحيطه الطبيعي، بغض النظر على السياسات التنافسية والعسكرية المدمرة. في كل رواياته الكثيرة: جميلة، المعلم الأول، ويطول اليوم أكثر من قرن، طريق الحصاد، النطع، السفينة البيضاء، ووداعا ياغولساري، الغرانيق المبكرة، شجيرتي في منديل أحمر، عندما تتداعى الجبال، العروس الخالدة، طفولة في قرغيزيا، نمر الثلج، الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر، كان آيتماتوف يعمل على استعادة الإنسان الذي سرقته الحداثة غير المتزنة والمصالح النفعية الصغيرة، ومحاولة ترميم ما خربته الحروب المتعاقبة والصراعات المدمرة للعنصر البشري.

 

واسيني الأعرج

واسيني الأعرج: أستاذ جامعي وروائي جزائري. يشغل منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس. يعتبر أحد أهمّ الأصوات الروائية في الوطن العربي. بلغ عدد إنتاجاتِه الروائية أكثر من 20 رواية؛ أبرزُها؛ روايتُه؛ الليلة السابعة بعد الألف بجزأيها: "رمل الماية" و"المخطوطة الشرقية". حصلت أعمالُه السردية على عدة جوائـز؛ نذكر منها: جائزة الرواية الجزائرية على مجمل أعماله. جائزة الشيخ زايد للكتاب (فئة الآداب). الدرع الوطني لأفضل شخصية ثقافية من اتحاد الكتاب الجزائريين، كما حصل على جائزة أفضل رواية عربية عن روايته "البيت الأندلسي". حصل على جائزة الابداع الأدبي التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي ببيروت عن روايته "أصابع لوليتا". حصل على جائزة كتارا للرواية العربية عن روايته "مملكة الفراشة". تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية من بينها: الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، السويدية، الدانمركية، العبرية، الإنجليزية و الإسبانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى