نقد

الحمالون

 

كنت مفتونًا دائمًا بالحمالين. كل أولئك الذين يحملون فوق رؤوسهم أو على ظهورهم أو فوق أكتافهم شحنات الناس. ليست حمولاتهم الخاصة ولكن حمولات الآخرين، ينقلونها ويذهبون بها من مكان إلى آخر من دون معرفة السلعة أو الشيء المسؤولين عن نقله.

والحال هذه، فما الكاتب إلا حمال أو بائع متجول أو رجل توصيل أو نقال، فجيمس جويس وصل الأوديسا في روايته «عوليس»، ونقل كافكا دافيد كوبر فيلد في روايته Amerika، وشحن بروست مذكرات سان سيمون في روايته «البحث عن الزمن الضائع»، ومارينا فارنر نقلت «العاصفة» إلى روايتها Indigo (اللون النيلي الأزرق). فالانجذابات بين الكتاب أو بين القراء مدينة للقراءات المشتركة، فيا لها من لحظة عظيمة حين تلتقون شخصًا له الأذواق الأدبية نفسها مثلكم. فالودُّ، أو بعبارة أفضل، التواطؤ يكون مباشرًا. فتنتبهون إلى أنكم تحملون الكتب نفسها، أو الكتاب نفسه، وحين نفكر في ذلك نرى أن هناك كثيرًا من الحمالين في الأدب!

لماذا نحكي قصصًا؟ ولماذا نستمع إليها؟ على مدار العصور تأملنا كثيرًا في هذه المسألة التي لها صلة وثيقة بعملية النقل؛ أليس النقل مسألة مرتبطة بحاملي الشحنات وبالعتّالين؟ ألا يرغب الحمالون في شيء سوى التخلص من الحمولة ومن الثقل والعبء الذي يرزحون تحته؟ سأحاول أن أثير هذه المسألة من خلال قصتين أو ثلاث، ومن خلال مشهدين أو ثلاثة.

يوجد المشهد الأول في نهاية قصة هيرودياس لفلوبير. حيث قطع رأس Iaokanann (القديس يوحنا المعمدان)، وتكلف ثلاثة أشخاص بحمله، إنها نهاية مثيرة، من فقرتين قصيرتين: «وحمل الثلاثة رأس Iaokanann، وتوجهوا به ناحية الجليل، وبما أنه كان ثقيلًا، فإنهم كانوا يتناوبون على حمله». وقع المشهد الثاني: في قرطبة عام 1129م، وقد رواه الصوفي ابن عربي في ثلاثة أسطر أو أربعة حين ذكر عودة ابن رشد إلى قرطبة، وبتحديد أكثر، رفات ابن رشد، الذي تُوُفِّيَ قبل أشهر قليلة بمراكش، شهد ابن عربي ورفيقان له وصول التابوت المحمول على جانب من ظهر دابة أحمال، وفي الجانب الآخر وضعوا كتب الفيلسوف لكي يحصل التوازن. أحد مرافقي ابن عربي وهو نَسَّاخ، وهذا الأمر ذو دلالة، صاح: «ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله، فقيدتها عندي موعظة وتذكرة». لماذا حكى ابن عربي هذا الحدث؟ ولماذا نقل هذا المشهد؟ ليحتفظ كما قال بكلام الناسخ، «فقيدتها عندي موعظة وتذكرة»، ولكن أيضًا كي لا يضيع، نقله كي يصير موضوعًا للتفكير والتأمل، وبهذا الصنيع فإنه أنزل الشحنة على القراء، الذين هم بدَوْرِهِم، سيصيرون ناقلين لها، فقط لأنهم تلقوا كلامًا، فكل متلقٍّ لقصة أو لمعرفة هو ناقل افتراضي مدعوّ إلى التخلص من العبء الموضوع على كاهله؛ الشحن وإفراغ الشحن، إننا نحمل العبء بالتناوب والتتابع، تباعًا.

  • خطبة جنائزية

الجملة التي أقرها ابن عربي «الإمام في جانب وأعماله في الجانب الآخر» هي على طريقته خطبة جنائزية. فابن رشد وهو ميت يستمر في حمل كتبه، فالجثة تحول دون سقوط الكتب والكتب تسند الجثة. فالتوازن محافظ عليه بين الموت من جهة، وبين الحياة من جهة أخرى، أو بالأحرى شكل من أشكال البقاء. فالجملة التي تقول بأن ابن رشد لا يفارق كتبه، لا تخلو من شيء من الدعابة. فروحه وجدت ملاذًا في كتبه، لكن ابن رشد لم يعد من أهل الدنيا، فهو سيخضع في الآخرة ليوم الحساب، فيحاسب على حياته وستوزن أفعاله. هكذا فالكتب بطريقة ما شهادة (صحيفة) يقدمها لملائكة الميزان، المكلَّفين بوزن الحسنات والسيئات، فإلى أي جهة يميل الميزان الخاص بابن رشد؟ لا إلى هذا الجانب ولا إلى الجانب الآخر. فالتوازن تامّ بين كِفَّتَي الميزان؛ بين الجثة والكتب. من المحتمل أن هذه الأفكار اخترقت ذهن ابن عربي وصاحبيه. أما بالنسبة إلينا فالمشهد يأخذ دلالة أخرى. كُتُبٌ نُقِلتْ، معرفة انتقلت. نُقِلَ ابن رشد من مراكش إلى قرطبة، ترك المغرب إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، ترك إفريقيا نحو أوربا، وترك الضفة الجنوبية للبحر المتوسط إلى الضفة الشمالية. يقال: إن ابن رشد رجع إلى أهله؛ إلى الأندلس مسقط الرأس، إلى أوربا، وإلى اليونان بطريقة ما، وبعبارة أخرى، عودة الطفل الضالّ. فقد عثر ابن رشد على أهله، لكن من هم أهله؟

لننتقل الآن نحو قصة أخرى، وهي حكاية من ألف ليلة وليلة، وبتحديد أكثر إحدى صيغ هذه الحكاية، نقرأ فيها أن عالمًا شيخًا ألقى كتبه في البحر، وكان ينتظر ميلاد طفل له، غرقت الكتب، مات الشيخ، وبعد ذلك بقليل وُلِدَ الطفل. فهل يتعلق الأمر بالنسبة إليه برفضه نقل المعرفة– مضمون الكتب؟ مع ذلك فقد نقل الحياة لابنه. فمن ناحية هناك الكتب المتلفة، ومن الجانب الآخر مولود جديد متخلى عنه، محروم من علم والده، بين قوسين، الوَلَدُ يُسمَّى حاسبًا، يعني الذي يحسب بكل معاني الكلمة. كان لزامًا عليه أن يمشي في دربه وحيدًا من دون نَجْدَة الكتب له، متخلصًا من عائق الماضي، متحدِّيًا التقاليد، فلن يُحَمَّلَ إياه ولن يتحمله. بخلاف شخصية أخرى، شخصية Enée ابن Anchise، بطل الإنيادة الذي فرَّ من طروادة حاملا أباه فوق ظهره، وبخلاف شهرزاد أيضًا التي لا أحد لاحظ ذلك، وهي تنقذ حياتها، فإنها كانت تنقذ حياة أبيها. لا ننسى أنها امرأة عالمة، تمتلك ألف كتاب، وتنقل محتواها إلى الملك، إنها كانت تضعها على كتفه، وها هو يشحن ليلة بعد ليلة بوزن يكون ثقيلًا جدًّا كل مرة.

كيف لنا ألَّا نذكر هذه المرة، بهذا الصدد، حمالًا آخر يسمى السندباد؟ ليس السندباد البحري ولكن السندباد الحمال، كل الناس تعرف حكاية السندباد البحري، أسفاره المدهشة، العواصف، البلدان القصية، الغرائب الإثنوغرافية… إلخ، فإن لم يكن في هذه الحكاية سوى هذا المظهر، فإن أهميتها ستكون رفيعة جدًّا. والحال هذه منذ الكلمات الأولى، يتعلق الأمر بسندباد حمال (أو السندباد البري). إن اختراع هذه الشخصية هو الذي جعل الحكي في نظري مهمًّا، فالمؤلف المجهول، الذي سيظله دائمًا، والذي تخيل التقاء السندبادين كان صاحب فكرة مدهشة.

منهك وضجر من حرارة بغداد، وضع السندباد الحمال حمولته عند عتبة بيت تاجر غني، هو السندباد البحري، ألقى نظرة داخل البيت، فاندهش لأثر الغنى الذي رأى، مندهش وغضبان، صرخ من الغضب: لماذا هو ولست أنا؟ فاستدعاه السندباد البحري، وعلم أنه يحمل اسمه نفسه، فتبسم له قائلًا: «لقد صرت أخي»، ثم لكي يبرر له غناه حكى له أسفاره السبعة، في كل يوم حكاية، وفي كل مرة يعطيه مئة قطعة ذهبية، وفجأة، السندباد الحمال الذي كان في السابق يتعيش بحمله للشحنات فوق رأسه، لم يعد يشغله شاغل سوى الإنصات للسندباد البحري، فلم يعد حمالًا، أصبح مستمعًا، وبسبب هذه المهنة يأخذ أجرًا. الغريب في الأمر، هو أن الراوي هو الذي يأخذ أجرًا عادة، والمستمع هو الذي يَهَبُ النقودَ، فقد انقلبت المعادلة في قصة السندبادين. خارج حصة العلاج النفسي لم أكن أعرف أمثلة أخرى. لكن كل شيء ينكشف حين ندرك أن السندباد الحمّال لم يتوقف حقيقة عن كونه حمالًا، إنه منذ الآن، يحمل قصة السندباد البحري. فهو يتكفل به، ومقابل ذلك، لهذه الميزة، ولهذا السبب، يأخذ أجرًا. يعني جاء دوره كي يتكفل به السندباد البحري الذي أصبح أخاه؛ أليس كذلك؟

  • قطيعة وانفصال

نلاحظ في كل هذه الحكايات أن هناك قطيعة وانفصالًا؛ ينفصل السندباد عن قصته الخاصة وهو يحكيها، وفي الوقت نفسه، ينفصل عن جزء من ثروته. الأكثر إثارة هو العالم الذي أغرق كتبه، ربما لأنه حملها كثيرًا وتحمل ثقلها. أما بالنسبة إلى ابن رشد انفصل عن الحياة، ويتجه نحو المجهول، يقطع الرابط مع كتبه التي ستصل عند الغرباء، وتنقل إلى لغات أخرى.

بغل، لماذا ليس حيوانًا آخر، جمل مثلًا؟ فالجمل والكتب تلك قصة أخرى، ها هي حكاية ذكرت في كتاب مناقبي من القرن 13م. أبو سهل، من الشرق، يصل إلى المغرب، ويستقر بإحدى الرباطات ليس ببعيد من مراكش، يذكر الإخباري، أن قبره أصبح محجًّا. لكن كيف استحقَّ ذلك، إلى درجة أن الناس تبحث عن بركته، لم يقل الإخباري شيئًا، ذكر فقط هذا الحدث. أكمل أبو سهل سفره على رجله من الشرق نحو مراكش، حاملًا على كتفه مخلاة وضع فيها كتبه، أثناء الطريق، كان يسير بجانبه جمل، فتوجه إليه وقال له: «يا أبا سهل ضع مخلاتك على ظهري واسترح».

 

عبد الفتاح كيليطو

كاتب أكاديمي مغربي، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982، يعملُ أستاذاً بكلية الآداب جامعة محمد الخامس، الرباط، منذ سنة 1968. تم ابتعاثه أستاذا زائرا لعدة جامعات أوروبية وأمريكية؛ من بينها: جامعة بوردو، والسوربون الجديدة، الكوليج دو فرانس، جامعة برينستون، جامعة هارفارد. كتب العديد من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، وكتب ويكتُب في مجلات علمية محكَّمة. شكلت أعماله موضوع مقالات وتعليقات صحفية، وكتب، وأبحاث جامعية، بالعربية والفرنسية. نقلت بعض أعماله إلى لغات من بينها "الإنجليزية، والفرنسية، واللمانية، والإسبانية، والإيطالية".

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى