الدراسات الثقافية

إطلالة سريعة على الأمثال الشعبية .. روح الشعوب

لا يُخفى على أحد ما للأمثال من شأن لمعرفة روح كلّ شعب على مرّ الأيام، فهي مرآة تكشف عن آرائها في أهم الأمور، وتظهر مواقف أصحابها ممّا يتعرضون له من أحداث تسر وتحزن، وذوقهم في المأكل والمشرب والملبس وأسباب الطرب واللهو.


“إن جاعت البطن بإيش ما كان قوّتها، وساعة البسط عمرك ما تفوتها”.

الأمثال تلخص فلسفة الشعب وخبرته وآراءه، وهي تمثل ثقافة الشعب، لذلك كانوا يكثرون بالاستشهاد بها في كلامهم، ولا يزال أناس كثيرون يأتون بالمثل تلو المثل ليؤيدوا آراءهم، فيقدمون له بهذه العبارة “القولة، المثل…”.


وميزة المثل أنه يعبّر عن المعنى الكثير باللفظ القليل “وخير الكلام ما قلّ ودلّ”.
والأمثال مأخوذة من صميم الحياة، أكثرها تشبيهات واستعارات من الأشياء المادية للدلالة على المعاني العامة، فإذا أراد الناس إظهار ما للمال من شأن، قالوا: “الدراهم كالمراهم حطّوه ع الجرح بطيب”.


وما يُحببّ الأمثال إلى الناس ويسهل عليهم حفظها واستعمالها وجود كثير من السجع أو الجناس أو التضاد فيها… “فالج لا تعالج، الجيران نيران، الدين غضب الوالدين، كول على ذوقك والبس على ذوق الناس… الخ”.


وقد تم جمع الآلاف من الأمثال الحلبية كقولهم: “مثل شحادين باب الفرج”، ومنها ما هو معروف في المدن السورية الأخرى، وسائر البلاد العربية، “قالوا للقاق ليش بتسرق الصابون؟ قال الأذى طبعي”.


واختلف الذين دوّنوا الأمثال في طريقة ترتيبها، فهناك من رتّبها بحسب موضوعها، كما فعل الأب جرجس شلحت الحلبيّ، فمثلاً أمثال على غرار “العين ما بتحبّ أعلى منها”، “العين ما بتعلى على الحاجب”، وضعها في باب “العين”.


ورتّبَ المصريّ أحمد تيمور باشا كتابه “الأمثال العامية” بحسب الحرف الأوّل.
ورتّبَ الأب يوسف قوشقجي الحلبيّ الأمثال على نظام حروف المعجم، معتمداً على الحرف الأوّل للكلمة التي تستقطب المثل، سواء أكانت في أوّله أم في وسطه أم في آخره.


هناك أمثال واضحة من نفسها، وهناك أمثال أخرى لا بدّ من شرح ألفاظها وتفسيرها: “النار الحدّه بالقرم الكبار” وهم يقصدون به أن الحبّ الشديد يكون عند الذين طعنوا في السن.


وهناك الأمثال التي يعود أصلها إلى عادات قديمة زالت عن الوجود: “المنحوس منحوس ولو علّق على بابزقاقو فانوس، إن شعلوا بنطفي، وإن قزلوا بنطفي”. فقد كان الناس يعلقون فوق باب دارهم فانوساً للإضاءة.


ويحصّل القارئ للأمثال فائدة تاريخية في أمورٍ كثيرة، كما قولهم: “أيام التوت الفاعل بيموت”، فقد كان النهار طويلاً، وهذا صعب على العمال.

وفي الأمثال ما يطلعنا على الأحوال الصحية والأمراض التي زالت أو كادت.
وهناك عدة أمثال عن القمل لكثرته في تلك الأيام: “فلان متل القملة المفروكة”.

ومن هذه الأمثال ما ورد في مجمع الأمثال للميداني (518 هـ/1124 م): “أذكر الديب وحضرّ القضيب”، “إذا ضربت وجّع، وإذا اطعمت شبع”، فهي ترجع إلى ما قبل القرن الثاني عشر.

“الأمثال تعبر عن ثقافة البشر، في ماضيهم وحاضرهم، وهي تجمع تجربة الشعوب وروحها”
وهناك في الأمثال ما هو حسن في ميدان الإيمان بالله والتحبب والتسامح، فما أسمى هذه الأقوال: “إنّ كنت مع الرحمن، لا تخف من تقلبات الزمن”، “لا تتكبر الله أكبر”، “عدوك لا تؤذيه إلو رب يجازيه”، “لا تقول مسلم ونصراني كلّهم خلق الرحمان”.

وهناك أمثال لا تدعو إلى مكارم الأخلاق، مثل “إذا شفت أعمى طبّو مانك أحسن من ربوّ”، “الهزيمة تلتين المرجلة”.

كذلك الأمثال التي تدعو الإنسان إلى مجاراة الأمور ليعيش بأمان ويدفع عنه الأذى: “إن ردت تستريح إش ما شفت قول منيح”.

وما أكثر الأمثال على النساء فقد كانوا يكرهون النساء ويتهمونهن بكلّ شر: “إذا سلمت البنت من العار بتجيب العدو للدار”، “صوت حية ولا صوت بنية”.

راعى الأب جرجس شلحت في كتابه “الأمثال الشعبية” أصول اللغة الفصيحة، ونقل الكلام كما يلفظه العامّة تارة أخرى، مثال ذلك: “هلّي بتطبخ منه بتأكل منه”، “قالّه: وين ضاعت الغلّة؟ قالّه بالمسواق”، والمسواق سوق الغنم، واستخدم منه بدلاً من منهو وقال له بدلاً من قالّو.

الأمثال تعبر عن ثقافة البشر، في ماضيهم وحاضرهم، وهي تجمع تجربة الشعوب وروحها، وهي فلسفتهم في أمور الحياة وخبرتهم فيها.

بقي أن أذكر أن الأب جرجس شلحت، وُلِدَ في حلب عام 1920، وانتقل إلى رحمته 1991، شارك في عدة مؤتمرات في سورية والدول العربية، وكان ينصرف للكتابة والتأليف، وأصدر الكتب التالية: أمثال حلب، هنهونات حلب، الندب في حلب، لغة حلب السريانية.

تابع تحصيل دروسه الثانوية مع لغاتها الفرنسية والعربية والسريانية واللاتينية، ثم واصل تحصيل علومه العالية في الفلسفة واللاهوت، وقد دافع عن حقوق العائلات الفلسطينية المهجرة القادمة من فلسطين وأمد لها المساعدات اللازمة.

الأب يوسف قوشقجي ولِدَ في حلب عام 1914 ـ وتوفي في عام 1995، وتعلم فيها دروسه الابتدائية، وهو علم من أعلام الأدب، كان كاتباً وأديباً ومؤرخاً خدم اللغة العربية خدمة صادقة، وقد صوّر في مؤلفاته صور الحياة الإنسانية في حلب، كرمته وزارة الثقافة عام 1981، وأطلق اسمه على أحد الشوارع في حلب.

التحق في عام 1925 بجامعة القديس يوسف في بيروت حيث تابع دراسته، فأتقن الفلسفة والعلوم اللاهوتية وتخرج عام 1938، رسم كاهناً لخدمة أبرشية الأرمن الكاثوليك، وعلم في عدة مدارس في حلب إلى أن أصبح مديراً لمدرسة القديس غريغوريوس عام 1943. ومن كتبه: الأدب الشعبي الحلبي، الأمثال الشعبية.

أحمد تيمور باشا أديب مصري، وُلِدَ في 1871 في القاهرة، وتوفي فيها 1930 ـ وهو مؤرخ وأديب وكاتب، وعضو في مجمع اللغة العربية.

تعلم في مدرسة مارسيل الفرنسية، ودرس العلوم العربية والإسلامية. وضع فهرساً ورقياً بخطه للمكتبة التيمورية، وله كتب عديدة منها: الألفاظ العامية المصرية، قاموس الكلمات العامية.

بالعربية

بالعربية: منصة عربية غير حكومية؛ مُتخصصة في الدراسات والأبحاث الأكاديمية في العلوم الإنسانية والاجتماعية.

‫2 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.كل الشكر والتقدير للمشرفين على هذا الموقع الثقافي المفيد والرصين .هذا الموقع المتميز بتنوعه وشموله وأهميته.تحياتي للاخوة جميعا وفقكم الله لخدمة القارئ العربي ولخدمة الثقافة العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى