نقد

تأملات في عالم حنا مينه الروائي

 

كان سوفوكليس عميد أدباء اليونان يقول أنه وصحبه كتاب الإغريق إنما يلتقطون ما يتساقط من فتاة مائدة هوميروس ومعنى ذلك أن سوفوكليس ويوريبدس وإسخيلوس وهم كبار كتاب الإغريق يكتبون على هدي من أدب هوميروس ويتخذونه المثل الأعلى ويستوحون من آثاره الخالدة المعاني البكر والجمال الباقي على مر الزمان. وقياسا على قول سوفوكليس هذا فإنه يجوز لنا أن نقول أن كتاب الرواية عندنا وهم كثر لا يحصيهم عد ولا يشملهم حصر إنما يلتقطون ما يتساقط من مائدتين لا مائدة واحدة كمائدة.

هوميروس، وهاتان المائدتان إحداهما للأستاذ نجيب محفوظ والأخرى للأستاذ حنا مينه.

فهذان الكاتبان أخلصا لفنهما إخلاصا منقطع النظير ولم يخوضا في غيره بهمة ودأب عجيبين فكون كل منهما عالما روائيا متميزا شامخا يعلو على كل العوالم الروائية التي كونها كتاب آخرون- وما أكثرهم- ونحن في هذا المقال نقف متأملين في عالم حنا مينه الروائي مستكشفين آفاقه الرحبة ومعماره الفني ونظرته الإنسانية التي تميز أدبه وحياته.

وفي آخر ما أدلى به الكاتب من تصريحات ذكر أنه إذا كان نزار قباني غزا البيوت العربية بشعره فإن ثمانين في المئة منها لا تخلو من رواية من رواياته.

ولهذا القول معنيان أولهما أن فن الرواية هو الفن الذي نشطت سوقه وراجت بضاعته واستولى على عقل ووجدان القارئ العربي بعكس الشعر الذي تراجع نفوذه وقل مقدروه ومتذوقوه لندرة مبدعيه وفشلهم في جذب القارئ ومد جسور التواصل معه.

وأما المعنى الثاني فيخص كاتبنا وهو تقدير من القارئ العربي لهذا الكاتب العربي واهتمامه بما يكتب واطلاعه على ما يبدع وهو عرفان قلما حظي به كاتب عربي معاصر.

في رواية ” الثلج يأتي من النافذة ” يستبطن البطل فياض نفسه، وينزل إلى قرارة ضميره ليميز بين الغث والسمين وفي رحلة الكشف هذه التي بدأها بقناعته أن يكون حديدة تلقى في المصهر ثم يطرقها الحداد، وهذا يعني مصارعة الحياة والكدح والنزول إلى قاع المجتمع ومزاولة الأشغال الشاقة لتتطهر اليد من نعومة القلم وحده ، ولتنجلي الغاشية عن البصيرة بعد أن أنعمت النظر في صفحات الكتب، غير أن النضال القسري والمفتعل سرعان ما يضمحل ويتلاشى تماما كالطلاء، إنما النضال فعل طبيعي إنساني تلقائي صادر عن ذات واعية ملتزمة لا تكلف ولا قسرية في تصرفاتها.

وفي حياة الأستاذ حنا مينه وفي أدبه من الوعي والاحترافية ما جنبه من الوقوع في هذا المأزق الوجودي ، فهو لم يكن كاتبا من كتاب الأبراج العاجية ولا مناضلا يتكلف النضال ويفتعل الكدح، وهو مدين للحياة القاسية الخشنة والمدمية التي عاشها والتي تضمنتها سيرته الذاتية ” بقايا صور” و” المستنقع” بما حققه من إبداع اشتمل على المقومات الجمالية للفن الروائي والنظرة الواقعية والرؤية الإنسانية وهي ميزات جعلته من كبار كتاب العصر ومثقفيه.

لكأن هذه الحياة الخشنة كانت المشيمة التي تغذت منها خلايا روحه وعقله وحبله السري موصول دائما بالواقع وبالحياة الرحبة خاصة وهي في أشد حالاتها بؤسا وعدمية ولا إنسانية.

وهكذا تتظافر الرؤية الإنسانية والواقعية للحياة والثقافة النظرية واستملاك الأدوات الفنية في شخص الكاتب فتجعل منه روائيا قديرا وجديرا بأن يثير فضول القارئ ويستفزه ثم يضمن صداقته الدائمة لأن الفن عنده صار هو الحياة كما أن الحياة صارت هي المادة الخام لفنه.

ولا شك أن الأستاذ حنا مينه قد وقف في حياته وقفات للتأمل ، واستبطن الذات ووعى التاريخ في حاضره وماضيه ومستقبله وأدرك جدليته، ولا شك أنها كانت تجربة أشبه بتجارب المتصوفة في رحلتهم نحو التطهر والعرفان وإن كان هؤلاء ينتهون إلى هجرة الزمان والمكان ونبذ الحياة بينما انتهى هو إلى الاندغام في الزمان والمكان واحتضان الحياة وتمثل الهم الإنساني وتبنيه كقضية يعيش الكاتب لأجلها.

وعالم حنا مينه الروائي هو عالم الإنسان في صراعه مع الطبيعة ، والإنسان في صراعه مع المجتمع، وفي صراعه مع التاريخ.

فإذا كان التاريخ هو صيرورة وتقدم ، فإنما ذلك بفضل الفعل الإنساني ووعيه لا منة غيبية وتكون حركة الجماعة هي تناغم وتناسق تستولد رحم التاريخ وتستنسل منها تاريخا جديدا متصلا منفصلا ومنفصلا متصلا ، والكاتب يعي هذا جيدا وهو ذو نزعة يسارية قارة في أدبه وفي حياته.

غير أن الإنسان ثمرة الوجود وأثمن ما جادت به الحياة يجد ما يعرقل وعيه ويشل طاقاته ويجهز على روح التغيير الخبيئة في نفسه وفي سراديب لاوعيه وأول المعيقات الطبيعة ذاتها وفي روايته ” الشراع والعاصفة” وهي رواية تمجد الفعل الإنساني وتبارك روح التحدي والمغامرة لأجل الآخرين الكامنة في شخص الطروسي ، فالبحر إذا صار رمزا وواقعا مثار تحدي، ومصهرا تنصهر فيه الإرادة الإنسانية متخلصة من الأدران فتغدو أكثر قوة وديمومة والإنسان الحقيقي هو الذي يمارس إنسانيته بلا تكلف أو رياء فهو كالماء ينبجس تلقائيا من جوف الأرض، والاستجابة لنداء الضمير في مساعدة الآخرين وهم في لحظة حرجة – حتى ولو كانوا من المسيئين إلينا- هي صفات الطروسي وحنا مينه من الذين يسمون بالجنس في أدبهم عن طريق الرؤية الإنسانية والطبيعية الذي تراه بها أبطاله بلا إسفاف أو بهيمية، فيغدو العمل الجنسي في أدبه فعلا تلقائيا طبيعيا تماما كارتواء الأرض من مطر السماء فتصبح ريانة خضراء ويانعة فالجنس والمطر كلاهما فعلان طبيعيان ذريعتان إلى النماء والخصب بلا كبت قاهر مرائي أو تهتك مخل بالشرف والإنسانية ، وأفضل الأعمال الأدبية التي تتجلى فيها هذه الخاصة ثلاثيته ” حكاية بحار” “الدقل” ” المرفأ البعيد ” .

ولنا أن نفهم البحر في هذه الرواية على أنه البحر باصطخاب موجه ورائحة صخوره، ولنا أن نذوق ماءه الأجاج ونتعرف إلى الصاري والشراع والشختورة- والكاتب ممن رسخوا أدب البحر في إنتاجنا الأدبي بعد أن اقتصر على البيداء في شعرنا القديم وعلى الريف والمدينة في رواياتنا الحديثة ، ولنا أن نذهب بعيدا في فهم هذه الرواية فالبحر هو الطبيعة ككل في تحديها للإنسان وعرقلتها بحتمياتها ومفاجاءاتها للتطور الإنساني، وما الفعل الإنساني إلا مغازلة فمراودة فمواقعة للطبيعة بهتك مخاطرها وإزالة عراقيلها وما التقدم الحضاري إلا فعل الإنسان في الطبيعة بروحه المتحدية وعمله الخلاق لتعود حياة البشر أكثر أمنا وسعادة وتطورا.

وأما المتحدي الثاني للإنسان والمعيق لصيرورة التاريخ وتطوره فهو المجتمع بأعرافه البالية ودجله المؤفين وانتهازية ساسته وإقطاعييه، إن هذا النوع من المجتمع يشكل تحديا للذات الواعية الطامحة إلى الحرية والعدالة والمساواة ومن ثمة يبدو الفعل في المجتمع أشبه بالحرث في الماء أو كما يقول المسيح إلقاء البذرة على الصخر لأن قوانين المجتمع الجائرة، وشلله الفكري وعطالته الروحية وتقاليده المؤفينة كل هذا يشكل تحديا لتطور التاريخ ربما أشد خطرا من تحدي الطبيعة ، ولكن لا يأس فالواحد يصير اثنين والاثنان ثلاثة وهلم جرا والتغيير في الأجيال يتم ببطء والصراع محتدم ومن جدل التاريخ وصراع المتناقضات تتولد الأفكار البكر وتتجسد المعاني التقدمية أفعالا ثورية خلاقة فتشمخر الحضارة وتتوطد دعائم المدنية الحقة.

ومن مؤلفات الأستاذ حنا مينه التي تتناول هذا الجانب ” الثلج يأتي من النافذة ” وقد تناولناها آنفا، ثم “الياطر” فالبطل الذي هرب الى الأدغال فرارا من جريمته ومن الناس وخوفا على نفسه بعد أن قتل اليوناني ” زاخرياس” ، هرب كأوديب فارا من قدره ثم لاقاه في النهاية، وكما يقول سارتر على لسان “أورست” في الذباب “إن أجبن القتلة من شعر بالندم ” والحياة التي عاشها وحيدا في الأدغال يأكل السمك ويتظلل الأشجار ويلتحف السماء وكأنه حي بن يقظان يكتشف ذاته لا السماء، إن هذه الحياة قد أشعرته بالملل وبالعدمية الوجودية فقد خلق من أجل أن يعطي، ومن ثمة سيعود إلى البلدة التي هجرها للدفاع عنها وحمايتها من الحوت العظيم الذي يهددها وهي نهاية رمزية توحي بعودة القطرة إلى النهر وعودة الفرد إلى أحضان الجماعة للعمل سويا .

أما رواية ” الشمس في يوم غائم ” فهي رواية تصب في هذا المصب أي صراع الإنسان مع المجتمع البالي وأحكامه الجائرة وقوانينه اللاإنسانية ، إنها رحلة كشف قام بها البطل مدركا في النهاية تفاهة الحياة الإقطاعية وعقمها وبلادة ناسها إضافة إلى انتهازيتها واستغلالها للتعساء والضعفاء الذين وجد في أحضانهم الأمان والفرح ومعنى الحياة الحقيقي ، وهذا المجتمع المنقسم الى فئتين، فئة الإقطاعيين وفئة الكادحين يمثل في النهاية المجتمع ككل ويمنع تقدمه والنضال إنما يسعى إلى توحيد الفئتين ليغدو المجتمع

متجانسا.

وهذه الرواية من أمتع ما كتب الأستاذ حنا مينه والجانب الرمزي فيها لا يعاني إسفافا أو تهلهلا فرقص الفتى المستوحى من الصورة ، صورة رمزية للواقع والمثال فيصير الواقع مثالا والمثال واقعا بالحركة والفعل الحي الذي تشارك فيه الأعضاء والوجدان ، إنه عمل الروح والبدن معا ، والخياط المقتول على يد الإقطاع ما هو إلا الحياة في نضارتها وعفويتها وطيبتها وعطائها اللامحدود إنه الإنسان الحقيقي المناضل بلا عنوان ولا نبرة خطابية ، أو روح ثورية مفتعلة ومقتله على يد قوى الشر والظلام لن يطفئ الشمعة ولن يذهب ببصيص الأمل واليوم الغائم ستنقشع غيومه وما أشد عنوان الرواية إيحاء رمزيا بانتصار القيم الإنسانية على الرذائل والمظالم .

إن قارئ هذه الرواية ينجذب إليها انجذابا شديدا لأنه يحس بنبض قلب الكاتب وعرق أصابعه وخلجات نفسه بل بنبض قلوب شخصيات الرواية وخلجات نفوسهم ، عكس رواية ” الثلج يأتي من النافذة ” التي يطغى عليها الطابع التجريدي والنبرة التعليمية مما يبعث بعض الملل في نفس القارئ في بعض صفحات الرواية ، لقد كانت الإيديولوجيا طاغية في هذه الرواية على قيمها الجمالية ومعمارها الفني ولم تكن خبيئة فيهما أو على الأقل مسايــرة لهما ، وهو ما تفــــاداه الكاتب في روايته الرائعــة ” الشمس في يوم

غائم “.

وأما الصراع مع التاريخ فقد تضمنته رواية ” المصابيح الزرق ” وإذا كان الاستعمار هو قدر الشعوب العربية ، فهو في الواقع سرطان يفتك بالروح والبدن معا ، ويترك الأوطان في دياجير الجهالة والعماء ، بل يعيدها إلى عصور ما قبل التاريخ والنضال ضد الاستعمار وتحدي وسائله القمعية وفلسفته العنصرية ، وروحه التدميرية واجب الإنسانية وله الأسبقية والأولوية على صراع المجتمع و الطبيعة .

إن رواية ” المصابيح الزرق” تعود بنا إلى البلد ” سوريا ” أثناء الحرب العالمية يوم كانت تحت الانتداب الفرنسي ، وما لاقاه الشعب من ضيم وهوان وماعاناه من مرض وفقر وجهالة ، وتنجح الرواية نجاحا منقطع النظير في جذب القارئ ، لكأنه يعيش تلك المرحلة ويشترك مع ناسها الفقراء التعساء في جدهم وهزلهم ويشم رائحة العفن في الأقبية ورائحة الأبدان التي تزكم الأنوف ، ويتقزز من بركه المنتنة ، ومن معيشتها المضنية في ذلك الحي الفقير ، لكن العبودية تنتهي حين يعي العبد وضعه كما يقول ماركس ويسعى للتخلص من نير الظلم بالكفاح ونشر الوعي السياسي بين أبناء الشعب ، وليتحمل المناضل السجن والمنفى والتشريد ، فالوطن قضية والتضحية لأجله واجب ، وهذا ما انبثق في وعي الفتى ” فارس” الذي مات على يد الفرنسيين تعذيبا وتنكيلا ، تاركا غصة في حلق والده سرعان ما تحولت إلى راحة وسلوى لأن شهادته حفل زفاف، ولأن فارس بفكرته الثورية وتضحيته زرع في رحم البلد آلاف الفتيان ممن يحملون لواءه ويواصلون رسالته حتى النصر .

هذا ما تقوله الرواية وهي رائعة حقا، لا تقع في فخ الخطابية ولا المباشرة، وبتركيزها على الحي الفقير واستقصاء مظاهر بؤسه واكتشاف قيمه الخالدة كالتعاون والفرح والتفاؤل وروح الدعابة تنجح في وصل القارئ بعقل الكاتب ووجدانه.

إن روايات الأستاذ حنا مينه شرائح من الحياة الإنسانية في سعيها الخالد نحو الحق والعدل والخير وتمجيد للفعل الإنساني الذي تكون تلك القيم هي غايته فالحياة أخذ وعطاء ولهي عند أستاذنا عطاء متواصل لا محدود

 

إبراهيم مشارة

ولد إبراهيم مشارة في 21 فيفري 1967 ببرج زمورة درس في طفولته بالكتاب وبالمدارس الرسمية بمسقط رأسه ونال شهادة البكالوريا عام 1986 ، انتسب إلى كلية الآداب بجامعة قسنطينة وتخرج منها بشهادة الليسانس عام 1992. مارس إبراهيم التعليم كأستاذ للتعليم الثانوي منذ عام 1992 إلى غاية 2007 ليشتغل بعدها مفتشا للغة العربية في التعليم الثانوي إلى اليوم. أصدر أول مقالة أدبية عام 1988 في جريدة الشرق الأوسط اللندنية عن العقاد وطه حسين ثم توالت مقالاته النقدية والقصصية في كثير من الصحف والمجلات العربية كالعربي، وأخبار الأدب والمعرفة والجيل...... نال جائزة القصة القصيرة عن اتحاد أدباء العراق عام 2007 بقصة" العربي ولد صالحة" ثم جائزة النقد من مؤسسة ناجي نعمان بيروت 2008 وجائزة الاستحقاق في القصة من مؤسسة نجلاء محرم بالقاهرة عام 2010. يكتب بصفة منتظمة في كثير من الصحف العربية والمهجرية والمجلات المحكمة والأدبية في معظم ربوع الوطن العربي . 1/ صدر له كتاب"وهج الأربعين" من إصدار وزارة الثقافة في إطار احتفالية الجزائر عاصمة الثقافة العربية وهو كتاب نقدي ضم مقالاته النقدية في المجلات العربية الأدبية. 2/ كتاب "ديوان الحكايا" عن دار إيزيس للنشر القاهرة 2011. 3/أوراق أدبية عن مؤسسة نون للنشر ألمانيا2016. كما له نشاطات أدبية منتظمة ومقالات نقدية وإبداعية على صفحات المجلات والصحف الرقمية العربية على شبكة الانترنت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى