منبرُنا

باعوا القلعة يا خاي

 

اشتهرت سيارة بيجو 104 باسم (مية علّة و علّة) في حلب ، و ربما في عموم سوريا لكثرة أعطالها و ضعف محركها، و رغم تصميمها الفرنسي الجذاب الشبيه لموديل شقيقتها الألمانية (فولكس فاغن كولف) عزف معظم الناس عن اقتنائها كمورد للرزق، و لا يشتريها إلا الفقير قليل الحيلة و الفتيلة، كذلك ينفر من ركوبها معظم الزبائن إلا المضطر، و كنت منهم في ذلك اليوم أواخر العقد الأخير من القرن العشرين، انتظرت أي تكسي طويلاً في الشارع العام لتقلني من حي “الشيخ مقصود” شمال حلب، إلى قصر العدل أمام القلعة بالضبط، و لحسن حظي (و على عكس مخاوفي) وقفت لي تكسي “بيجو 104” ، و قال سائقها : إلى أين؟

نظرت إليه متجاهلاً مخاوفي، و قلت له على مضض : إلى قصر العدل.

مدّ رأسه ناحيتي و قال بحزم : اطلع يا أستاذ.

عندما مدّ رأسه ناحيتي انتبهت لبتر ساقيه من تحت الركبة، كنت سأنكل عن الركوب مع قوله لي اطلع، لكن ندرة قبول السائقين لتوصيلي إلى قلب مدينة حلب، و لطول انتظاري وتأخري عن مواعيد جلسات المحاكم، و بعد رؤيتي لعاهة الرجل الكادح، وافقت على ركوب السيارة (أم العلل)، و صعدت جانب السائق المحارب من الأمام بعد التوكل على الله.

و بدون أن أطلب من السائق أن يسرع قليلاً لأني تأخرت، أطلق الرجل لسيارته العنان و قال هي الحرب، فوجئت ببراعته و نشاط سيارته رغم تحكمه بها عن طريق اليدين فحسب، كانت السيارة الجبارة – على غير عادتها و سمعتها – قد جُهزت محلياً للقيادة عن طريق اليدين، كل شيء فيها مُعدّ مسبقاً ليتناسب مع عاهة السائق : دواسة السرعة و الفرامل و فاصل التروس (الدبرياج) و الجير (غيار السرعة) و مفاتيح الأضواء و الزمور مثبتة قرب المقود من الشمال و اليمين، و عجبت من براعته في قيادة السيارة أفضل من السالمين، و عجبت أكثر كيف تطاوعه هذه السيارة سيئة الصيت فتسبق اختها “الكولف” و “المرسيدس” العروس و غيرها أكثر!.

كما عجبت من حديث السائق أكثر و أكثر، سألني في الطريق بخبث :

• وين هادا قصر العدل؟
استغربت سؤاله و هل يعقل ألا يعرفه سائق تكسي عمومي في حلب؟.. قلت له مبتسماً :

• قصر العدل أمام قلعة حلب.

• ليش ضل (بقي) قلعة في حلب؟

• الله الله.. حلب بدون قلعتها لا يعرفها أحد، و لولا القلعة لما تميزت حلب.

• ليش مالك خبر إنو باعوا القلعة يا خاي؟

• لا والله، ما سمعت بهيك خبر!

• لاه يا استاذ، انت محامي و فهمان و ما عرفت انهم باعوا القلعة؟

• لا والله ما عرفت. ليش مين باعها و لمن؟

• باعوها تجار السمسرة و الرشاوي في السراي، متل ما باع الحكام العدل في قصر الظلم.

• وين هادا قصر الظلم يا خاي؟

• محل ما تشتغل، هادا ما هو القصر العدلي، هادا قصر ال عدّ لي…

• هيك معك حق، و للأسف وصل الفساد لجسم القضاء.

• بس القضاء؟.. الفساد عم ينخر في البلد متل الجراد، و الله يستر ما يبيعوها كلها مو بس قلعة حلب!

• أكيد مانك مخابرات؟ و الله خايف اقول اللي في قلبي تزعل و تكتب فيني تقرير.

• ليش هادا منظر مخابرات؟ لو كنت عنصر أمن ما اشتغلت شوفير تكسي مع عجزي.. خليها على الله استاذ.


يقولون كل ذي عاهة جبار، لكن ذلك السائق كان جباراً في انتصاره على عجزه، و في توقعاته للمستقبل المخيف، صاحب قلعة حلب كوفئ بعد حين بمنصب رئيس القلاع، و قالوا له أحسنت، و صاحب القصر الكبير المتربع على طول البلاد و عَرضها، باع البلد و عِرضها للغرباء بحفنة من الدراهم و الدنانير و الروبلات..
و ها نحن الآن بعد عشرين عام بلا وطن، في كل بقعة من الأرض نتسول اللجوء حتى في بقايا البلد، و نبكي “سوريا” كانت لنا… ثم باعها صاحب القصر الوسيم بكلمته المشهورة :
(أنا أو لا أحد) .


جهاد الدين رمضان
في فيينا ٣١ آب / أغسطس ٢٠١٩

 

جهاد الدين رمضان

جهاد الدين رمضان، محامٍ وكاتب مستقل من سوريا. مُقيم في النمسا حالياً بصفة لاجئ. أكتب القصة القصيرة والمقال ومُجمل فنون أدب المدونات والمذكرات والموروث الشعبي. نشرتُ بعض أعمالي في عدد من المواقع ومنصات النشر الإلكتروني والصحف والمجلات الثقافية العربية. لاقت معظمُها استحسانَ القراء و لفتت انتباه بعض النقاد لما تتسم به من بساطة في السرد الشيق الظريف و أسلوب ساخر لطيف؛ مع وضوح الفكرة وتماسك اللغة وسلامتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى