نقد

مغاربة الثقافة

 

 

عندما طرحتُ مصطلح «المغرب الثقافي» في جريدة «أنوال» خلال التسعينيات من القرن الماضي، كان المنطلق هو أن ما يزخر به المغرب من إمكانات وتنوع وغنى ثقافي، لا يتناسب مع الواقع الذي يعرفه على المستوى الثقافي، سواء من لدن الإعلام أو المشتغلين في تدبير الشأن العام. كما كان المقصود، من وراء ذلك، التحسيس والعمل من أجل إحلال الثقافة والفعل الثقافي، سياسة وتدبيرا وتنشيطا، ما يستحقان من العناية الدائمة والمتواصلة. كانت العلاقة وقتها وثيقة نسبيا بين الثقافي والسياسي، وكان المثقفون منخرطين في صيرورة دشنت منذ الاستقلال، وعرفت أوجها في السبعينيات.

لكن أواخر التسعينيات شهدت بداية التراجع، والانقسام الذي أوصل إلى القطيعة، والانسحاب التدريجي من لدن المثقفين من الانخراط في العمل السياسي والاجتماعي، فتصدعت عرى العلاقات التي كانت تجمع بينهم، سواء في الجمعيات الثقافية، أو اتحاد كتاب المغرب، أو شعب الكليات، ولا سيما كليات الآداب، خاصة أقسام اللغة العربية وآدابها.

انسحب من انسحب من المشتغلين بالثقافة، وكان التوقف عن النشر عند البعض، مع الاكتفاء بالمتابعة عن بعد. وغاب التوهج الذي كان سائدا، سواء على مستوى العلاقات أو الاجتماعات. وظل من يشتغل ويواكب بعيدا عن الانخراط المباشر في ما يجري. صارت اللقاءات بالصدفة، أو في بعض الملتقيات، أو بناء على دعوات خاصة في لجان جائزة المغرب، أو ما شابه هذا. ومع أحداث الربيع العربي صار الحديث عن دور المثقف مشفوعا بالإدانة تارة، أو الإشارة إلى الغياب أو التغييب طورا.

وفي ظل هذا الواقع العام، وما أصبح يزخر به من تراجع عن الفعل الثقافي من لدن الأحزاب المعارضة، بصورة خاصة، أمسى الإعلام الثقافي، الذي كان مزدهرا هزيلا، ولا يشارك المثقفون في إثرائه أو إغنائه. ولا داعي للحديث عن الوسائط الجماهيرية. قلّت المجلات التي تحمل الهم الثقافي، وتواكب الهواجس المعرفية، وتستجمع الأقلام على اختلاف أنواعها ومشاربها. لكن هذه الصورة القاتمة تخفي وجها آخر، يتمثل في بروز أجيال جديدة من الكتاب والباحثين والمثقفين، الذين اختاروا الهجرة إلى المجلات العربية، وحضور المنتديات والمؤتمرات الثقافية العربية، فلا تكاد تتصفح مجلة عربية، أو تتابع ما ينشر في الوسائط المتفاعلة، إلا وتجد حضورا كثيفا لـ»مغاربة الثقافة» الذين صرتُ لا أتعرف على الكثير منهم، إلا في ندوات خارج الوطن، أو من خلال إشارات باهتة في بعض الجرائد، عن حصول بعضهم على جائزة عربية أو دولية. من أسميهم مغاربة الثقافة لا يعرفهم المغاربة، ولا يهتم بهم الإعلام المغربي، ولا تروج أسماؤهم في الأوساط الثقافية.

مغاربة الثقافة يختلفون عن مغاربة الرياضة والفن والإعلام. خجولون، يعملون بجدية، واجتهاد، وبصمت، فلا يقومون بأي جلبة أو ترويج لأنفسهم. يفرضون أنفسهم في المحافل الخارجية، وتتكرر أسماؤهم هناك، بدون أن يلتفت إليهم أحد هنا.

مغاربة الثقافة يختلفون عن مغاربة الرياضة والفن والإعلام. خجولون، يعملون بجدية، واجتهاد، وبصمت، فلا يقومون بأي جلبة أو ترويج لأنفسهم. يفرضون أنفسهم في المحافل الخارجية، وتتكرر أسماؤهم هناك، بدون أن يلتفت إليهم أحد هنا. ويقبل الناشرون العرب على التنافس على طبع أعمالهم. لن أعود إلى سنوات ماضية لتأكيد صورة هؤلاء وواقعهم. منذ بضعة أيام ظهرت القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (2019 / 2020) لفرع التنمية وبناء الدولة، فنجد ضمنها باحثين مغربيين هما: محمد بوسلاَّم وعزيز الحدادي. وفي فرع الفنون والدراسات النقدية نجد خمسة من الباحثين المغاربة ضمن اللائحة الطويلة نفسها، وهم: عبدالرحمن التمارة ولحسن بن اعزيزة وعبد الرحيم جيران وحورية الخمليشي ومحمد أمعارش. لا يمكن للمرء سوى أن يغتبط لهذا الحضور الدال على حيوية وعطاء. عندما كنت في لجنة جائزة كتارا عندما استحدثت جائزة خاصة بالنقد الروائي لأول مرة، كان الفائزون بها أربعة باحثين من المغرب، وقس على ذلك، والأمثلة كثيرة في هذا المجال.
يكفي لإثبات هذه الصورة تصفح أي مجلة عربية لنجد أنفسنا أمام عدد كبير من المشاركين فيها من المغرب. وقلما أعثر من بين هؤلاء على أسماء تنتمي إلى جيلي. ولا أخفي أنني أجد في هذا نوعا من السعادة والاغتباط. فالمغرب، شأنه في ذلك شأن كل البلاد العربية ولود، متى توفرت الشروط والفضاءات والإمكانيات، التي تتيح الظروف الملائمة لتكتمل الولادة والنمو الطبيعي والصحي. كما أنني في قرارة نفسي أحس بنوع من الحزن يجعلني أتساءل لماذا لم أتعرف على هؤلاء في المغرب، أو أقرأ أعمالهم ضمن دور مغربية للطباعة والنشر؟ من يهتم بهذه الأجيال الجديدة من مغاربة الثقافة الذين يسهمون في تطوير الإبداع والثقافة المغربية والعربية؟ من يطلع على أعمالهم واجتهاداتهم ويناقش ما يكتبون؟ كيف يشتغلون؟ هل يعرفون بعضهم بعضا؟ أسئلة كثيرة تفرض نفسها، لأنها تبين لنا أننا لا نتواصل في ما بيننا، فلا فضاءات تجمعنا، ولا إطارات تستقطب هذه الفعاليات وتوجه أعمالها لغايات موحدة ومسؤولة.

إن ما يجمع بين هؤلاء جميعا، رغم كل العوائق التي تحول دون تواصلهم وتفاعلهم، هو المغرب الثقافي المفتوح والمنفتح على الثقافة العربية والإسلامية والإنسانية. مغاربة الثقافة الجدد سليلو الهموم المعرفية والهواجس الثقافية التي دشنها مثقفو المغرب والعالم العربي القدامى. ويعملون بجد من أجل التطوير. إنهم يشعلون شمعة، ولا يكتفون بلعن الظلام.

 

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى