الدراسات الثقافية

متحف نجيب محفوظ

سررت كثيرا عندما قرأت خبرا عن افتتاح المتحف الذي خصص لنجيب محفوظ في القاهرة القديمة، حيث تجري معظم أحداث رواياته، بتكية أبو الذهب قرب جامع الأزهر. لقد تبين لي من خلال هذا الحدث أن مصر رغم كل التراجعات والتردي الذي عرفته، بالقياس إلى ما كانت تتمتع به من أدوار ريادية في الحياة العربية، قادرة رغم كل شيء على مواصلة المسير، وإن بخطوات متعثرة وبطيئة.


وأفسر ذلك بكون التقاليد الثقافية التي تأسست منذ عهد محمد علي، والتي اتخذت مع الناصرية بعدا آخر، تكرست بصورة عميقة، بحيث تظل مقومات تلك التقاليد مترسخة، رغم كل ما يمكن أن يعتور الحياة العامة من تراجعات وانتكاسات.


ولعل بناء المتحف نفسه الذي تقرر بناؤه في سنة 2006، والذي لم يتم افتتاحه إلا في 15 يوليو/تموز 2019 دليل على هذه التعثرات التي تعترض الكثير من المشاريع، والتي قد نجد لها مبررات ومسوغات تتصل بنوعية التكية العتيقة، وما يتطلبه إصلاحها من إجراءات وعمليات، وفي الوقت نفسه نرى أن تلك التقاليد ما تزال تفرض نفسها، وإن كان يتحقق ما يتصل بها من مشاريع بعد طول زمن، وتلك واحدة من الخصوصيات المصرية.


مثل هذه التقاليد لم تتكرس في الكثير من البلدان العربية الحديثة، التي نجد لكل منها تراثا زاخرا وعلى كل المستويات، وبدل بذل الجهد لجعل مكونات ذاك التراث معاصرة من خلال المتاحف، وإعادة بناء الآثار الدارسة بالصورة التي كانت عليها في الماضي، نجدها مهملة وعرضة للاندثار والزوال.

نجد في المغرب على سبيل المثال الكثير من المدن العريقة التي لم يتم الانتباه إلى خصوصيتها وقيمتها التاريخية: هل أذكر وليلي، وسجلماسة، وأغمات، ومراكش وفاس، وطنجة؟ وغيرها من المدن والمواقع التي جرت فيها أحداث تاريخية؟ ما هي اليد المعاصرة التي أحاطت بها لتجعلها تمثيلا لذاكرة تاريخية جماعية، ليس فقط للمغاربة، ولكن لكل من يزور المغرب؟

كم من الأعلام عاشوا في المغرب، أو أقاموا فيه، ونجدهم يحضرون معنا من خلال مؤسسات تقدم جليل أعمالهم، وتعرف بأدوارهم في تاريخ المغرب: هل أذكر ابن طفيل؟ وابن رشد؟ ولسان الدين بن الخطيب وابن خلدون واللائحة طويلة؟ وهل يكفي أن نطلق أسماء بعض هؤلاء على شوارع في خلفيات الأحياء، لنكون فعلا قد أقمنا علاقة بين الماضي والمستقبل؟ ومع ذلك نجدهم يتحدثون عن السياحة، وعن ضرورة الارتقاء بها.

لا يمكن لمتحف نجيب محفوظ أن يحجب ضرورة إيجاد متاحف لشخصيات أخرى مصرية في الثقافتين الشعبية والعالمة.

يفاجأ العربي وهو يزور إسبانيا، ويقارن بين ما تقوم به متصلا بالتراث العربي الإسلامي، وما يحفل به المغرب من تراث عمراني، وآثار، فيجد الفرق بين الثرى والثريا.

من يزر المدن العتيقة والحديثة في أوروبا يجد إلى جانب العناية بالتاريخ التقدير الكبير للأعلام الذين ينتمون إليها. وفي موسكو لا يمكن لمن يعرف الأدب الروسي إلا أن يتفاجأ بما قدم عن الكتاب الروس من اهتمام وتخليد لآثارهم: للكثير من الكتاب والفنانين دور خاصة تعد من معالم المدينة السياحية.

فلا تدخل إلى بيت دوستويفسكي، مثلا، إلا بعد خلع نعليك، وانتعال قبقاب خشبي، فتجد نفسك في محراب كاتب تعايشه من خلال كتاباته وملابسه، ومكتبه وكل ما كان يتصل به في حياته.

وعند الخروج تعرض عليك بطاقات سياحية مغلفة تضم صورا كثيرة عن المدينة والكاتب. اعتبرت مدينة موسكو متحفا مفتوحا. لا يكاد يخلو شارع أو ساحة عمومية من ملامح شخصية أدبية أو فنية، مثل تماثيل في منتهى الجمال.

ويمكن قول الشيء نفسه عن مدن مثل بكين، حيث ترى التاريخ من خلال قصوره، ومقابره، وساحاته، وحدائقه، بل حتى الأشجار العتيقة يتم تدوين تاريخها الخاص، كل ذلك يجعلك أمام قطع فنية تنبض بحياة التاريخ مقدما بصورة جديدة.

مدينة فاس العتيقة، مثلا، تاريخ يمتد في العصر الحديث، متحف حقيقي. ولا أظن، ومعرفتي بتواريخ المدن ضئيلة، أن هناك مدينة بكاملها ما تزال على العهد الذي بنيت عليه بكامل أجزائها ومكوناتها، وأسمائها القديمة مثلها، ولا تكاد توازيها في ذلك سوى مدن عربية قليلة مثل حلب الشهباء، وغيرها من المدن.

بذلت مجهودات من لدن اليونسكو لترميمها، وما تزال المدينة بدون الرعاية التي تستحقها باعتبارها تراثا إنسانيا. كانت في السبعينيات في الطالعة الكبرى لافتة تسجل بيتا أقام فيه ابن خلدون، وفي زيارات لاحقة بحثت عن تلك اللافتة سدى، وقس على ذلك.

إن إهمالنا لتاريخنا لا يمكنه إلا أن يجعلنا بلا جذور، ومعنى ذلك أيضا بلا مستقبل. كيف يمكننا تطوير السياحة الثقافية بدون رؤية للتاريخ وعلاقته بالإنسان والذاكرة والمستقبل؟ من يزر القاهرة يجد التاريخ فيها مجسدا من خلال كل حقبه فيها من الفراعنة إلى العصر الحديث.

لا يمكن لمتحف نجيب محفوظ أن يحجب ضرورة إيجاد متاحف لشخصيات أخرى مصرية في الثقافتين الشعبية والعالمة. كما يمكن لذلك أن يكون نموذجا يحتذى في الوطن العربي تخليدا لذكريات رجال خدموا هذا الوطن، وساهموا في الارتقاء به إلى درجات عليا.

سعيد يقطين

كاتب وناقد مغربي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، متخصص في السرديات العربية، أستاذ زائر بعدد من الجامعات العربية والغربية، حاصل على جائزة الشيخ زايد في الفنون والدراسات الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي؛ نسخة 2023.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى